لن نمل ولن نكل ولن نيأس من الحديث عن التعليم باعتباره قاطرة المجتمع نحو المستقبل الأفضل، واسألوا «مهاتير محمد» ليقول لكم ماذا كانت نقطة البداية فى خروج «ماليزيا» من مستنقع التخلف لكى تصبح دولة عصرية متقدمة؟
فالشعوب الفقيرة هى الأولى من غيرها بالاهتمام بالتعليم والحرص عليه، و«مصر» دولة ليست ككل الدول، لأنها رائدة فى مجال التعليم سبقت المنطقة كلها وأخذت بيد شقيقاتها ـــ عربيات وإفريقيات ـــ من أجل بداية عصر النهضة الذى جرى إجهاضه بميلاد الدولة «العبرية» واستنزاف المنطقة فى الصراع العربى الإسرائيلي، ولقد كانت القوى الناعمة المصرية مرتكزة تاريخيًا على التعليم قبل سواه، لهذا سعى بانى مصر الحديثة «محمد على باشا» ورواد النهضة فى عصره إلى الارتقاء بالتعليم وإدخال الأساليب العصرية والتقاليد الأوروبية فيه، نعم لقد كان لدينا «الأزهر الشريف» الذى نقلت عنه الجامعات الأوروبية بما فى ذلك جامعة «أكسفورد» حيث ظهر نظام الكليات تقليدًا مباشرًا لنظام «الأروقة» الأزهرية وظاهرة «شيخ العامود»، إلا أن أزهريًا مستنيرًا هو «رفاعة رافع الطهطاوي» استطاع أن يأخذ بيد التعليم وأن يكون بحق رائد التنوير فى عصره، وتلاه «على مبارك» ومجددون آخرون بمن فيهم الإمام «محمد عبده» رائد حركة إصلاح «الأزهر الشريف» و«طه حسين» داعية المساواة بين التعليم والماء والهواء، ثم جاء «جمال عبد الناصر» بمجانية التعليم وإن كان قد أسيء استخدامها والانحراف بها عن هدفها الحقيقي، ثم بدأت عملية تدهور شاملة فى التعليم المصرى مع نهاية ستينيات القرن الماضي، وبداية السبعينيات فقد انعكست ظروف نكسة 1967 على مناحى الحياة فى بلدنا، وفى مقدمتها التعليم مع تزايد الأعداد بفعل المشكلة السكانية، واضطراب الأوضاع نتيجة لذلك فأصبح الفصل المدرسى أقرب إلى «السيرك المزدحم» أو «المولد الصغير»! ثمانون طفلاً فى حجرة ضيقة غير مكتملة الأثاث مع غياب لفناء المدرسة وانزواء لحصص، الهوايات فضلاً عن ضعف كفاءة المدرسين والمدرسات لأنهم إفراز طبيعى لمجتمع يتدهور هو الآخر، فأصبحنا أمام مشهد مؤسف لدولة كانت رائدة التعليم فأصبحت فى مؤخرة الدول صاحبة الريادة والفضل، ويجب أن نتذكر هنا الملاحظات الآتية:
أولاً: إن دورنا الإقليمى ومكانتنا فى المنطقة قد تراجعت بشكل ملحوظ مع تراجع نظام التعليم لأننا افتقدنا حالة الجاذبية التاريخية التى شدت إلينا طلاب الدراسات فى مدارسنا وجامعاتنا فضلاً عن تهاوى قيمة شهاداتنا الجامعية، ومازلت أتذكر عندما سعيت إلى «لندن» دبلوماسيًا وطالبًا للدكتوراة فى مطلع سبعينيات القرن الماضى أن الطبيب المصرى الوافد للدراسة هناك كان يعامل مثل الطبيب البريطانى تمامًا، ولا يحتاج إلى شهادة «معادلة» ولكن يحتاج فقط إلى دورة تأهيلية فى «اللغة الإنجليزية» بينما كان يحتاج الطالب الهندى إلى شهادة معادلة لأن مستواه العلمى حينذاك كان يعتبر أقل من البريطانى أو المصري! ويتم التجاوز له فقط عن امتحان «اللغة الإنجليزية» لأنه يتحدثها، فأين هم وأين نحن الآن؟!
ثانيًا: إن التركيز على نظرية الكم فى تطوير التعليم المصرى دون الاهتمام بالكيف، أو الاعتناء بالنوعية العلمية قد أدى إلى كارثة حقيقية فأصبح يرضينا أن نتحدث عن «آلاف المدارس» التى يجرى تشييدها وملايين الطلاب فى صفوفها وعشرات الجامعات المبعثرة فى أقاليم الدولة دون أن نهتم بالمضمون التعليمى والمستوى الأكاديمى للمعلمين والتلاميذ أو الأساتذة والطلاب، فأصبحنا أمام مشهدٍ عبثى يبدو فيه «الهيكل» قائمًا ولكن المحتوى خاوٍ، وقد جاء الوقت الذى يجب أن نعنى فيه بالمعلمين قبل غيرهم، ولن نتمكن من القضاء على آفة الدروس الخصوصية إلا بتقنينها علنًا من خلال المدارس ذاتها، ولو فى غير أوقات الدراسة فيها مع الاهتمام بشكليات الحضور والانصراف، ومواظبة التلاميذ، ووجود الشروط الصحية فى المدارس، بدءًا من الفناء وصولاً إلى دورة المياة، ولا بأس إذا اضطررنا إلى مدارس «الفصل الواحد» فى القرى الصغيرة بشرط أن يكون المعلمون من ذوى الضمائر اليقظة وليسوا من ذوى الاتجاهات المتطرفة!
ثالثًا: إن الابتعاث إلى الخارج واحد من المقومات المطلوبة للمدرس العصرى ومازلت أتذكر يوم سعى إلى مكتبى الخاص فى وسط القاهرة السفير البريطانى الأسبق مبديًا دعمه لثورة 25 يناير وطالبًا منى النصيحة فيما يمكن أن تقدمه «المملكة المتحدة» لمصر والمصريين بعد هذه الثورة، فقلت له إنه التعليم أولاً وثانيًا وثالثًا وشرحت له أهمية أن تستقدم «بريطانيا» كل ستة أشهر عدداً من المعلمين المصريين، وليكن ألفين أو ثلاثة وتوزعهم على منشآتها التعليمية يشاهدون ويتعلمون ويفهمون، وقلت له إن عودتهم سوف تقترن بالضرورة برفع مستوى الأداء، وبالتالى رفع مستوى العملية التعليمية ككل، ووعدنى السفير يومها بالنظر فى ذلك الاقتراح، ولكن جرى نقله بعدها إلى بلاده، ولا أعلم مصير اقتراحى بعد ذلك، فأنا مؤمن أن الانفتاح على التجارب المتقدمة يحيل الإنسان بالضرورة إلى كيان مختلف نتيجة الاحتكاك الحضارى والتماس الثقافي، فالتعليم لايستقيم وحده دون التدريب المطلوب.
رابعًا: إن التعددية فى نظام التعليم المصرى جريمة كبرى فى حق الشعب وانصهار أفراده، وتقارب الأفكار بين أبنائه، فهل يعقل أن يكون لدينا تعليم دينى يضم آلاف المعاهد فى القرى والنجوع ولدينا تعليم عام يضم الملايين موزعة على خريطة الوطن، إلى جانب تعليمٍ أجنبى استثمارى وتعليم خاصٍ تجارى ثم نتصور بعد ذلك أن يكون لدينا وطن موحّد له أركان ثابتة وقواعد متينة؟ إنه لا يصهر المجتمع ويؤدى إلى تجانسه إلا أمران أولهما التعليم الذى يجب أن يجلس فيه «الفقراء» إلى جانب «الأغنياء»، وأن يكون الفيصل الوحيد فى الأمر هو التفوق العلمى والتحصيل الدراسى لأن انصهار الطبقات والفئات والقطاعات والديانات لا يأتى إلا من خلال وحدة التعليم، ثم يلى ذلك التوحد فى «الخدمة العسكرية» دون تفرقة أو تمييز، فالكل جنود الوطن بغير استثناء، لهذا فإنى أقول صراحةً إن جزءًا كبيرًا من انقسام المجتمع بل وممارسة العنف والانخراط فى جرائم الإرهاب هى فى مجموعها نتائج طبيعية لما أدى إليه نظام التعليم من تفرقة، وما خلق من حواجز بين أبناء الوطن الواحد.
.. إننى أدرك أن المهمة صعبة، وأن المسئولين عن التعليم يبذلون قصارى جهدهم، ولكن الطريق شاق والمسيرة طويلة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46852
تاريخ النشر: 17 مارس 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/368890.aspx