لن أتوقف عن الاصرار على التمسك بحق الثقافة العربية في أن تكون لها قمة كان من المقرر أن تعقد منذ سنوات وقد كنت أول الداعين لها في اجتماع «لمؤسسة الفكر العربي» بمدينة «بيروت» في حضور الأمير «خالد الفيصل» رئيس المؤسسة حينذاك والسيد «تمام سلام» وزير الثقافة اللبناني في ذلك الوقت وقد جرى استقبال الاقتراح المصري بكثير من الحفاوة والاهتمام الى أن تبنته القمة العربية نفسها وبقرار منها وبدأ جهاز الجامعة يبحث ترتيبات عقد تلك القمة ودعيت شخصياً للقاء مع الأمين الحالي د. «نبيل العربي» الذي عبر عن اهتمامه بالموضوع ولكنه فضل أن يكتفي بأن تكون «قضية الثقافة» هي أحد البنود المطروحة على احدى القمم العربية واختلفنا يومها في الرأي الى أن سمعت الأمين العام نفسه يتحدث في مناسبة ثقافية «بالجزائر» ويعطي العامل الثقافي مكانته الطبيعية فأعتبرت أنه قد غير رأيه تجاه هذا الأمر خصوصاً أن الأمين العام السابق السيد «عمرو موسى» كان متحمساً لاقتراح «القمة الثقافية» وعقد اجتماع مائدة مستديرة مع عدد كبير من أقطاب الفكر ورموز الثقافة فى العالم العربي وسعدت بحضوره وما قيل فيه لذلك فانني أعاود الحديث فى هذه القضية الحاكمة خصوصاً في ظل هذه الظروف التي يطل فيها الارهاب الأسود بوجهه القبيح على المنطقة وهنا أطرح وجهه نظري من خلال المحاور التالية:
أولاً: لقد جرت تحولات ضخمة في المجتمع الدولي المعاصر بحيث تصدرت العلاقات الثقافية غيرها من العوامل الحاكمة لطبيعة العلاقات الدولية عموماً، ويكفي ان نتأمل القضايا الرئيسة الثلاث وهي «العولمة» و»صراع الحضارات» و»الحرب على الارهاب» لنكتشف أن هذه القضايا كلها ذات طبيعة ثقافية لذلك بدأ العامل الثقافي يحتل مكانة عالية في عالمنا المعاصر فالكل يدرك أن السلوك السياسي للدول يرتكز على دعائم ثقافية هي التي تشكل السياسة الخارجية لكل دولة ـــ وفقاً لشخصيتها ـــ في وقت أصبح فيه الخارج انعكاساً مباشراً للداخل ولعل النموذج الايراني خير مثال على ذلك فالسياسة الخارجية «لطهران» هي انعكاس لواقع داخلي يقوم على نظام يختلف عن غيره، فالعامل الثقافي في النهاية هو عامل حاكم تتأسس عليه العوامل الأخرى.
ثانياً: ان المثقفين هم «جيش الاستنارة» الذي يمكن أن يواجه «الارهاب» ويقاومه و ينتصر عليه لذلك فاننا عندما ندعو الى عقد «قمة ثقافية عربية» فان ذلك يأتي في توقيته تماماً، فالعنف في كل مكان من الوطن العربي ويستهدفنا «الارهاب» من كل اتجاه ربما على نحو غير مسبوق في تاريخنا الحديث وهو ما يدعونا الى التركيز على العامل الثقافي الذي يحتوي التعليم والمعرفة والثقافة والفن ويسمح بتشكيل كتائب فكرية تقهر الفكر الظلامي وتتصدى لمحاولات تشويه الدين الاسلامي والحضارة العربية وتأليب جماعات ارهابية جديدة تكاد تولد كل يوم، اننا نتطلع الى مواجهة شعبية ضد التطرف والعنف والارهاب وهي مواجهة لا تتحقق الا بتغييرات جذرية في السلوك العام للشعوب العربية والاسلامية ويجب أن نعترف هنا بأن تدهور منظومة التعليم في معظم الدول العربية قد أدى الى ما نشهده الآن من تراجع واضح لعوامل التقدم وأسباب النهضة.
ثالثاً: لن نتوقف عن الحديث عن «التعليم» فهو البوابة الى عصر أكثر رقياً مما نحن فيه، فالتعليم هو «نافذة الشعوب» على الدنيا حولها وهو يستدعى بالضرورة البحث العلمي الحديث والتركيز على التدريب المهني والحرفي ومحاربة الأمية الى جانب توظيف التعليم لخدمة التشغيل والقضاء على البطالة فلو أخذنا الدولة المصرية نموذجاً فاننا سوف نعترف بأن سبباً رئيسياً في تراجع دورها الاقليمي في فترة معينة قد ارتبط بتدهور منظومة التعليم لديها بل وتراجع الاشعاع الثقافي منها لذلك فان «مؤتمر القمة الثقافية العربية» يجب أن يبحث في القوى الناعمة للعرب وتوظيفها ضمن العناصر الكبرى والعوامل المهمة في الحرب على الارهاب.
رابعاً: لقد أصبحنا نسمع في عدد من المنظمات الدولية أن هناك محاولات لتقليص دور بعض اللغات المستخدمة في «الأمم المتحدة» ومنظماتها ومن بينها اللغة العربية وقد لاحظت شخصياً عزوف بعض تلك المنظمات عن ترجمة بعض الأوراق الى العربية اكتفاءً بلغتين أو ثلاث كبرى في مقدمة اللغات المستخدمة في المنظمة الدولية الأولى وفروعها المختلفة ووكالاتها المتخصصة وهو ما يعني أن هناك حرباً خارجية على اللغة العربية وان كان يزيد عنها تلك الحرب الداخلية لدى العرب أنفسهم والتي تجعلهم يستهينون بلغتهم الأم ويعتبرون الاهتمام بها جهدا ضائعا لأن زحف اللغات الأجنبية أصبح يسيطر على الأجيال الجديدة ويعطيهم احساساً بأن استخدام تلك اللغات يعد دلالة على التقدم ودليلاً على الرقي وربما كان الأمر غير ذلك تماماً، «فالصينيون» على سبيل المثال يصرون على التحدث بلغتهم في المحافل الدولية رغم اجادة بعضهم لغات الأجنبية وذلك تعبيراً عن الانتماء الوطني والانحياز للغتهم، واذا كانت دعوتنا للقمة الثقافية العربية مرتبطة بالتعليم والحفاظ على اللغة العربية فانها تمتد أيضاً الى أزمة الانتاج الثقافي والنشر عموماً في معظم الدول العربية ويكفي أن ندرك أن مجموع عناوين الكتب الجديدة الصادرة في أكثر من اثنتين وعشرين دولة عربية لا يكاد يشكل نسبة تذكر من المنشور سنوياً في دولة مثل «أسبانيا» وحدها، وهو احد التحديات التي يجب أن نواجهها في شجاعة لأن قدرتنا على صياغة المستقبل تتوقف على درجة اسهامنا في الفكر الانساني المعاصر.
خامساً: ان وزارات الثقافة العربية ومعها وزارات التعليم بمراحله المختلفة يجب أن تعد دراسات موجزة عن الغايات المطلوبة والأهداف المنظورة خصوصاً مع تركيز بعض الأساتذة الكبار على نوعية جديدة من الباحثين الذين يتوافرون لدينا، وهنا يجب أن نكون صادقين مع النفس وفي مواجهة الغير بفتح آفاق جديدة أمام المشروع الثقافي العربي الذي ينبغي ان تتبناه القمة المطلوبة.
.... ان ما نهدف اليه من الدعوة «لقمة ثقافية عربية» هو هدف سياسي بامتياز وحضاري بالدرجة الأولى احتراماً لحضارتنا، وحفاظاً على ثقافتنا، وتأكيداً لهويتنا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46894
تاريخ النشر: 28 أبريل 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/383517.aspx