كتب «صبحى وحيدة» رئيس اتحاد الصناعات المصرية فى أربعينيات القرن الماضى كتابه الشهير «المسألة المصرية» واخترق الرجل برؤية بعيدة الغيوم الكثيفة التى كانت تحيط «بمصر» حينذاك ورأى من خلالها تصورًا لمستقبل هذا الوطن.
ومازال هذا الكتاب عمدةً فى نوعه وفرعه، ونكتب اليوم عن»المسألة المصرية» على قياس ما عرفناه فى التاريخ عن «المسألة الأوروبية» أو غيرها من القضايا ذات الطابع الجماعى الذى يستحق الدراسة، وها نحن نتلمس طريقنا لفهم أبعاد «المسألة المصرية» وآفاقها المختلفة، «فمصر» ليست بلدًا غنيًا ولا بلدًا فقيرًا ولا بلدًا صغيرًا ولا بلدًا كبيرًا ولا بلدًا متقدمًا ولا بلدًا متخلفًا، إنها كل ذلك فى آن واحد، دعنا نستعرض بمنطق بحثى الدلالات المرتبطة بذلك:
أولًا: إن «مصر» دولة تتمتع بفرادة عجيبة تجعلها محط الأنظار فعلى أرضها يقبع تراث حضارى ضخم لا نكاد نجد له نظيرًا فى أية دولة أخرى، «فمصر» «الفراعنة» و«الإغريق» و«الرومان» و«العرب» أدت كلها إلى تلك الفرادة وتشكيل نوعية خاصة لشخصية متميزة ترتبط بمفهوم التراث وقيمته، فالعرب حين هبطوا عاصمة «مصر» القديمة رأوا المعابد الضخمة وظنوها قصورًا ومن هناك جاءت تسمية «الأقصر»، كما أن كلمة «الأمصار» هى جمع كلمة «مصر» فالعالم عرف الدولة الأولى على أرضها كما أن «المصاري» أى النقود ارتبطت باسم «مصر» ذلك الاسم الذى ورد فى العهدين «القديم» و«الجديد» وجاء ذكره مرات عديدة مباشرة أو بالإشارة إليه فى «القرآن الكريم» لذلك فإن «المسألة المصرية» تبدأ من القيمة التراثية لذلك البلد الإفريقى العربى صانع الحضارات وملتقى الثقافات.
ثانيًا: إن العبقرى الراحل «جمال حمدان» مؤرخ الجغرافيا ومتذوق التاريخ قد وضع يده مباشرة على مصادر القوة فى «مصر» وجعل عبقرية الزمان والمكان محور ارتكازه الذى ينطلق منه لفهم التكوين الحضارى والشخصية المتميزة «للكنانة» وهذه نقطة جديرة بالتأمل لأنها تخلق شعورًا مزدوجًا تجاه «مصر» حتى من جانب أولئك الذين يقدرونها ويرتبطون بها فهى تصنع إحساسًا بالحب لها والحساسية منها فى آن واحد، وتبدو للبعض وكأنها الأخ الكبير الذى يستأثر بكل شيء ويحجب عن أشقائه مايجب أن ينالوه وهذه نقطة جديرة بالتأمل «فمصر» ــ حتى بين جيرانها ـــ تثير القلق أحيانًا وتدعو إلى الشعور بالنقصان أحيانًا أخرى أمام بلد وهبته الجغرافيا ومنحه التاريخ وأغدقت عليه الطبيعة فأصبح دوره محوريًا ونشاطه مركزيًا يؤدى أحيانًا إلى تهميش سواه كما تبدو المشكلة أكبر فى ظل معادلة الحجم السكانى الكبير مع الفقر فى مواجهة دولٍ أصغر، ولكنها تتمتع بالثراء الذى يجعل نظرتها إلى «مصر» محكومة بهذه العقدة ولا أظن أن العلاقات المصرية القطرية ـــ على سبيل المثال ـــ تبدو بعيدة عن هذه الزاوية تحديدًا، فالأموال الباهظة تصنع كل شىء ولكنها لا تصنع تاريخًا ولا تغير واقعًا جغرافيا ولنا فى «الولايات المتحدة الأمريكية» نموذجًا يحتاج للدراسة فى هذا الإطار فهى القوة الأعظم فى عالمنا المعاصر وصاحبة التقدم الاقتصادى الكاسح والتفوق العسكرى الواضح، ولكنها فقيرة التاريخ تسعى إلى شرائه أحيانًا واصطناعه أحيانًا أخرى فلقد سعت إلى دول أوروبية لها تاريخ مثل «بريطانيا» لكى تشترى منها «أكشاك التليفونات الحديدية الحمراء» بل وساومت على كوبرى «لندن» ذاته، فويل للدنيا ممن يملك حاضرًا قويًا ويدرك أن تاريخه محدود وأن ماضيه مجهول!
ثالثًا: إن للقيادة والريادة ثمنا، فالزعامة الدولية أو الإقليمية تحتاج إلى إمكانات كبيرة ونفقات باهظة من معاهدات وتحالفات ومعونات ومؤتمرات وحروب أيضًا، فمن شاء أن يتصدر عليه أن يدفع، لذلك فإن أى حديث مع «مسئول صيني» حول إمكانية قيادة دولة «الصين» لزعامة العالم المعاصر يجعله ينتفض كمن لدغه «ثعبان» ويرد بقول جاهز «إن هذا مفهوم «إمبريالي» لا نقبله، وكل ما نريده هو أن يكون لنا وجود فاعل فى القارة الآسيوية ولدى الدول الصديقة بحكم إنتاجنا الصناعى ،ويدنا الممتدة نحو الآخرين»، «فالصين» بالفعل ليست مستعدة لكى تكون وريثًا للحقبة الأمريكية إذا انتهت ونفس الأمر ينسحب على «مصر» فى إقليمها لذلك ثار لغط شديد حول دورها، وهل يجب عليها الانزواء فى الداخل بحكم ظروفها الداخلية أم الانتشار فى الخارج بحكم قدراتها العسكرية ومكانتها الإقليمية والدولية، إن هناك من يرون أن «المسألة المصرية» يمكن اختزالها فى دور محدود ومحدد تلعبه «القاهرة» لأن تحركها خارج حدودها يبدو أحيانًا مستفزًا لغيرها ومقلقًا لجيرانها إذ يجب أن تتعامل معهم بالندية المطلوبة والروح العصرية القائمة إذا كنا بحق نفكر فى مستقبل مستقر لهذه الدولة العظيمة التى ننتمى إليها.
رابعًا: إن جزءًا كبيرًا من ثورات المصريين عبر التاريخ قد جاءها من خلال قدرتها على اقتحام المشكلات ومواجهة التحديات قبل أن يفكر مغامر أو طاغية فى أن يضغط عليها أو أن يقهر إرادتها إذ أن «مصر» عصية على التغيير الفوري، ولكنها تأتى فقط من خلال المؤثرات الإنسانية و الثقافية أو العوامل الدينية والوطنية أحيانًا أخرى ولكن القاسم المشترك بين كل هذه الدوافع هو قضية «العدالة الاجتماعية»، فالمصريون يثورون من أجل تلك القضية بالدرجة الأولى والذين يتأملون شعارات ثورة 25 يناير 2011 سوف يكتشفون أن قضية «العدالة الإجتماعية» هى العامل المسيطر والأساس فى كل ما يجرى وهى الدافع الرئيس نحو مواجهة الفساد والوقوف ضد الاستبداد.
خامسًا: إن «المسألة المصرية» ليست شعارًا عارضًا ولكنها تعبير معقد يحمل فى طياته عناصر تاريخية وأخرى تراثية وجغرافية ولا تقف عند حد معين وهى ذات طابع دولى واقليمى وذات طابع قومى ومحلى لذلك فإن تعبير «المسألة المصرية» لا يأتى من فراغ، ولكنه تجسيد لمجموعة من الأعمدة التى تقف عليها شخصية الدولة المصرية عبر التاريخ ومثلما كانت «المسألة الشرقية» فى يوم من الأيام هاجسًا دوليا فإن «المسألة المصرية» حاليًا هى هاجس إقليمى وقومى فى ذات الوقت.
هذه نقاط سقناها للتدليل على التركيبة الخاصة والسبيكة المتميزة التى تشكل شخصية «مصر» وسياستيها الداخلية والخارجية وطبيعة الارتباط بينهما عبر مراحل التاريخ المختلفة.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46922
تاريخ النشر: 26 مايو 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/399379.aspx