وسط هذا الظلام الدامس الذى يغلِّف المنطقة العربية، والصقيع القارس الذى يسيطر على أجوائها دعونا فى «مصر» نخرج من هذا المناخ المقلق لنبحث عن نقاط ضوءٍ وسط الركام الذى نعيش فيه، إذ إن لدينا مصادر أخرى للتفاؤل والإحساس بإمكان التقدم إلى الأمام، وحتى نكتشف أن كل ما أصابنا من تراجع برغم أننى أعترف بأن تلك المشاعر قد تحركت إيجابيًا بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، دعنا نرصد هنا بعض مظاهر التميز فلنتأمل معًا النقاط التالية:
أولاً: تملك «مصر» أضخم تراثٍ ثقافى على الأرض فتحت كل حجرٍ فيها أثر تاريخي، لا يتهمنى أحد «بالشيفونية» إذا قلت إنها «أم الحضارات» و«بوتقة الثقافات» أخذت عنها كل حضارات «البحر المتوسط» من «رومان» و«إغريق» و«فينيقيين» و«عرب»، إنها مستودع التراث وحافظة دفتر أحوال البشرية منذ ميلادها، ليست هذه مجرد تعبيرات رنانة ولا كلمات عاطفية، إن لدينا مدينة واحدة هى «الأقصر» فيها مايزيد على ربع الإرث الإنسانى كله بشهادة المنظمات الثقافية الدولية، فيها ولد التوحيد ومنها خرج موسى «كليم الله» وعلى أرضها عبرت «العائلة المقدسة» وفى أنحائها ارتفعت مآذن الإسلام تأكيدًا لاحترامها للديانات السابقة وإيمانًا من شعبها بكلمة الله الأخيرة إلى الناس، إنها واسطة العقد وقلب العرب وروح إفريقيا وأكبر دولة فى جنوب المتوسط «بحيرة الحضارات» التى أطلت عليه عبر التاريخ، وهى فى العالم الإسلامى درة التراث الروحى وحافظة العقيدة والشريعة ومجمع مدارس الفقه الصحيح.
ثانيًا: تملك «مصر الحديثة» مؤسساتٍ ثقافية وفكرية يحق لها أن تفاخر بها وأن تباهي، ففى العاصمة الثانية ثغر «مصر» البسّام تربض تلك التحفة المعمارية قلعة المعارف والعلوم وأعنى بها «مكتبة الإسكندرية» التى جددت شباب التاريخ وذكرت الدنيا بالمكتبة الأولى التى أضاءت المنطقة منذ عشرات القرون، وفى مصر أيضًا «دار الأوبرا» امتدادًا لبنائها القديم فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر، أى أن «مصر» كان لديها «دار أوبرا» فى وقتٍ موازٍ لوجودها لدى عدد قليل من الدول الأوروبية عندما أراد «خديوى التنوير» «إسماعيل باشا» أن يحيل البوابة الشمالية الشرقية «لإفريقيا» إلى «قطعة من أوروبا» بعد أن شيد جده «محمد علي» امبراطورية مترامية الأطراف تبدأ من سواحل شرق إفريقيا وأعالى النيل إلى حدود هضبة «الأناضول» و«جزر البحر المتوسط» فضلاً عن امتداد شرقى فى الشام وغربى فى التخوم الليبية لإقليم «برقة».
ومازالت «الأوبرا» المصرية مركز إشعاع فنى مصرى وعربى ودولى إذ تستقدم الفرق الفنية الكبرى من «دور الأوبرا» النظيرة من قارات العالم المختلفة، إن «دار الأوبرا المصرية» التى تستضيف مهرجانات «الموسيقى» كل عام هى نقطة ضوءٍ حاول نظام «الإخوان المسلمين» إطفاءها ولكنها ظلت صامدة بل وتألقت وازدهرت وزاد الاهتمام بها والإقبال عليها لأن الشعب المصرى يدرك أهمية «الأوبرا» باعتبارها «أم الفنون»، كما أنها ترتبط فى الذاكرة المصرية بحفر «قناة السويس» الأولى، ولعلنا نحتفل فيها بإتمام حفر قناة السويس الثانية! ثم إن لدينا فوق ذلك وقبله «المجمع العلمى المصري» الذى نالته يد الإثم والعدوان بحريقٍ متعمد فى يوم مشئوم عندما أراد بعض الخونة أن يحطموا «الثورة المصرية» ويتسللوا بين صفوفها، وهو مجمع له مكانته التاريخية والدولية، شيده «نابليون بونابرت» مركزًا لعلماء الحملة الذين رافقوه ثم أصبح بعد ذلك مركزًا لعلماء مصر الكبار من كل فروع المعرفة، ولدينا أيضًا «مجمع اللغة العربية» أقدم المجامع فى المنطقة والذى ندعو الله أن يخرجه من عزلته وأن ينفتح على التيارات الفكرية والمدارس اللغوية فى العالم المعاصر وألا تحتكره عقيدة سياسية أو دينية، فاللغة العربية هوية للجميع دون تمييز أو إقصاء.
ثالثًا: لدينا مؤسستان دينيتان فريدتان «الأزهر الشريف» و«الكنيسة الوطنية» وهما يمثلان مركز ثقل روحيا للمسلمين والمسيحيين، فالأزهر الشريف هو حصن الدين الحنيف وحافظ لغة الضاد، كما أن الكنيسة الأرثوذكسية هى التعبير الروحى الممتد منذ دخول المسيحية إلى «مصر» ولا تخفى علينا حقيقة أخرى هى أن «مصر» كانت ملاذ «أهل البيت» منذ القرن الأول الهجرى والذين تشير أضرحتهم وشواهد قبورهم إلى مكانة «مصر» الإسلامية، ومصر أيضًا هى التى ابتدعت الرهبنة المسيحية وعرفت «الأديرة» قبل غيرها لأنها دولة السماحة والسمو الروحى ومحبة أولياء الله من كل دين.
رابعًا: إن «مصر» النيل والأهرامات والبحرين الأحمر والأبيض والشواطئ الرائعة والشمس الساطعة والسياحة المفتوحة على امتداد العام تشكل كلها نموذجًا فريدًا لدولة ليس كمثلها دولة، لأنها تقع فى نقطة التقاء بين الجغرافيا والتاريخ، بين المكان والزمان، كما رآها العبقرى «جمال حمدان»! إن بلدًا يملك كل هذه الخصائص لا يجب أن يندهش حين يستهدفه الآخرون وأن تتوالى عليه الضغوط عبر تاريخه ولا تتوقف من جانب الطغاة والغزاة والبغاة.
خامسًا: إننا شعب الرموز الكبيرة فى تاريخنا الوطنى من «طه حسين» و«العقاد» و«سلامة موسى» و«توفيق الحكيم» و«أم كلثوم» و«عبد الوهاب» وصولاً إلى «نجيب محفوظ» و«أحمد زويل» و«جمال عبد الناصر» و«أنور السادات»، فهى مصر «مجدى يعقوب» و«بطرس غالي» وغيرهما من العلامات المضيئة فى الداخل الخارج، إنها مصر عرابى عام 1881، وسعد زغلول عام 1919، وجمال عبد الناصر1952، وأنور السادات عام 1973، والشعب المصرى البطل عام 2011، وقواته المسلحة الباسلة عام 2013 .. إنها «مصر» التى لم تعرف التحزب ولا التعصب، ولم تعرف الأحقاد السوداء ولا المشاعر العدوانية، حاربت من أجل «الأرض» وفاوضت من أجل «السلام» وظلت تحمل الشعلة دومًا.. ألم أقل لكم إن لدينا نقاطًا مضيئة .. «تفاءلوا بالخير تجدوه».
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46796
تاريخ النشر: 20 يناير 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/355176.aspx