حضرت منذ أيام لقاءً تحدث فيه الرئيس «عبد الفتاح السيسي» إلى القيادات الإعلامية وكبار رجال الأعمال، وكنت حريصًا على متابعة وقائع تلك الأمسية الرمضانية المهمة خصوصًا وأن العلاقة بين الرئيس ورجال الأعمال تبدو ملتبسة لدى البعض وتخضع فى مسارها لشائعات ليس لها سند من الحقيقة، وهنا يكون من حقنا أن نطرح فى شفافية ووضوح الملاحظات التالية:
أولًا: إن رجال الأعمال جزء لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع بل لقد صعد بعضهم من القاع وكان نموذجًا للعصامية والشرف فصورة رجل الأعمال ليست سلبية ولا ينبغى أن تكون كذلك، وهذا لا ينتقص بالطبع من الاعتراف بوجود بعض «الثروات الطفيلية» التى تكونت فى غفلة من الزمن وجاء تراكمها على حساب المجتمع واستخدام أساليب لا تمت للصعود الطبقى النزيه ولكن القلة لا تشوه الكثرة، كذلك فإن من كوّنوا ثروات غير مشروعة وبطرق ملتوية أمامهم سلطة القانون الذى يجب أن تلجأ إليه الدولة وألا تلجأ لسواه، فقد انتهى عصر التأميم والمصادرة والعدوان على الملكية الخاصة واغتصاب حقوق الغير ما لم يكن هناك سند قانونى واضح لذلك، ولقد أسعدنى أن رأيت الرئيس «عبد الفتاح السيسي» فى ذلك اللقاء يؤكد أمام رجال الأعمال أنه لا يقبل أن يستحل أموال الغير أو ينتزع منها قسرًا بل هو يدعو إلى إسهام من يملكون الثروات فى دعم الاقتصاد المصرى والخروج به من عثرته لأننا لم نمر من عنق الزجاجة بعد ومازالت المشكلات متراكمة والأزمات قائمة برغم كل الجهود المبذولة والنوايا المخلصة، ولقد أقسم الرجل صادقًا لو أن لديه مائة مليار جنيه لمنحها لوطنه عرفانًا بما قدمه لنا واعترافًا بما تستحقه «مصر» لذلك فإننى أظن أن العلاقة بين الرئيس ورجال الأعمال لم تعد ملتبسة فهى واضحة الحدود إذ هو يتطلع إلى دعمهم لوطنهم فى الوقت الذى يحترم فيه حدود الملكية ولا يفكر فى إجراءات استثنائية كما يتخوف البعض أو يشيع البعض الآخر.
ثانيًا: لقد بدا واضحًا من حديث الرئيس فى تلك الأمسية الرمضانية أن «مصر» تحتاج إلى جهد خارق فى كل القطاعات لتخرج مما هى فيه، نعم لقد تمكنا من السيطرة على مشكلة «رغيف العيش»، ونجحنا نسبيًا فى معالجة أزمة الكهرباء وانقطاع التيار فى الأيام الحارة صيفًا، كما تحسن الأمن الجنائى بدرجة ما وقلت الاعتصامات الاحتجاجية والتظاهرات الفئوية، فضلًا عن اختراقات ناجحة فى السياسة الخارجية، ولكن ذلك كله لا يؤشر إلى الخلاص الكامل من مشكلات مزمنة وأزمات طاحنة وظروف صعبة لذلك بدت نبرة الصدق فى حديث الرئيس «السيسي» واضحة ولم تبرأ عباراته من نغمة الشجن الذى يرتبط بعشق الأوطان والحزن على معاناة أبناء شعبه وإحساسه الشديد بالفقر والفقراء.
ثالثًا: إننى أظن من القدر الذى درسته فى «علم الاقتصاد» أن رفع المعاناة عن الطبقات الفقيرة يحتاج تلقائيًا إلى تشجيع الشرفاء من رجال الأعمال فهم الذين يفتحون بوابات الاستثمار الوطنى والأجنبي، ولقد اكتشفنا مؤخرًا أن كل مستثمر غير مصرى يسعى لأن يكون له شريك مصرى حتى يشعر بالطمأنينة ويتدثر برداء الأمان وإذا فزع رجال الأعمال المصريون فإن العدوى سوف تصيب بالضرورة المستثمرين الأجانب والقائل بغير ذلك واهم لا محالة، إن مسئولية رجال الأعمال فى الاقتصاديات الحديثة هى إتاحة فرص العمل للشباب وضرب البطالة فى مقتل وإقامة المشروعات التنموية التى تأخذ بيد الاقتصاد الوطنى بدلًا من المشروعات ذات الربح العاجل دون أن يكون لها مردودٍ إيجابى على الطبقات الفقيرة، لقد حان الوقت لكى نعمل جميعًا من أجل «مصر» فى محنتها بعد أن احتضنتنا جميعًا فى سنوات العمر منذ بدايتها، إن «مصر» تبدو اليوم أشد ما تكون حاجةً لجهود أبنائها وأموالهم ووقتهم ولم يعد من المقبول أو المعقول أن نرقب المشهد الصعب من مقاعد المتفرجين.
رابعًا: إننا لا نبالغ إذا قلنا إننا أمام مرحلةٍ شديدةَ الصعوبة، بالغة التعقيد، مفرطة الحساسية، تكاد تصل إلى حد المعادلة القائلة (بأن نكون أو لا نكون) فالمخاطر تحيط بـ«مصر» من كل اتجاه ويجب ألا ينسى الجميع أن جيشنا يحارب فى «سيناء» ويوجد على شواطئ «اليمن» ويحرس الحدود الغربية فى ظل الظروف المتفجرة فى الدولة «الليبية» المنقسمة على نفسها بشكل يدعو إلى القلق والحذر، ويجب أن نتأمل المشهد الإقليمى حيث تجتاح موجة إرهابية عاتية المنطقة حتى ضربت بجرائمها الوحشية «العراق» و«سوريا» بل و«اليمن» و«ليبيا» وامتدت يدها العابثة إلى دول «الخليج العربي» باستخدام شعارات ظالمة تحاول الانتساب لـ«الإسلام» الحنيف ذلك الدين العظيم الذى يسعى إلى أن «يطعم البشر من جوع» وأن «يؤمنهم من خوف»، فإذا بهؤلاء ينشرون الظلام والقهر ويتفننون فى أساليب القتل ذبحًا وحرقًا وغرقًا ورجمًا تحت شعاراتٍ دينية لا تمت بصلة لجوهر الرسالة السمحاء وشريعتها الرحبة.
خامسًا: إن التكافل الاجتماعى الطوعيّ مطلوب ولكنه لا يكفى وحده، ولعلى أعبر عن شعور الناس الذين يدركون حجم معاناة فقراء «مصر» وسكان عشوائياتها وهم يطالعون على شاشة «التلفزيون» كل مساء عمليات «التسول» فى بعض الإعلانات الداعية إلى التبرع لذوى الحاجة، ونتساءل جميعًا لماذا لا يكون البديل هو إجراءات مقننة وملزمة فى إطار قانونى عادل يعطى لمن لا يملكون تحت مظلة الدولة دون استجداء أو نزيف كرامة؟! إذ يكفى الفقير معاناته فيجب ألا نضيف إليها جرحًا فى كبريائه وأنا أعلم أن الكثير من رجال الأعمال يعطون فى السر والعلن ما تجود به مشاعرهم الدينية والوطنية، ولكننى أتطلع إلى مؤسسات رسمية تحيل عمليات التكافل الاجتماعى إلى دعم ثابت بحيث يعرف كل طرف ما له وما عليه كما أن تعميم الأفكار الجديدة مثل «بنك الطعام» وغيره من التجارب الناجحة فى دول أخرى هو مدخل طبيعى لتحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية التى يطالب بها المصريون عبر تاريخهم الطويل.
هذه ملاحظات وخواطر أثارتها أمسية حضرتها فى لقاء مع «ولى الأمر» - رئيس الجمهورية - وشعرت وقتها بحجم المعاناة وكم المشكلات وطبيعة التحديات التى نمر بها وسوف نظل فى مواجهتها لسنوات قادمة واضعين فى الاعتبار أن «مصر» الحديثة لن تبنيها المعونات العربية أو القروض الأجنبية فتلك هى مساعدات وقتية نقدرها ولكن الخلاص يكمن فى خروج «مصر» مما هى فيه بسواعد أبنائها وعرق شبابها وأموال القادرين فيها، عندئذ لن تكون هناك علاقة ملتبسة بين الرئيس ورجال الأعمال فسوف نصبح كما كنا دائمًا (الكل فى واحد).
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46964
تاريخ النشر: 7 يوليو 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/413013.aspx