يرتبط الدور الإقليمى صعودًا وهبوطًا بالأوضاع الداخلية للدولة خصوصًا فى بعديها الاقتصادى والأمنى، فالدور الإقليمى ليس «صكًا» تاريخيًا مفتوحًا ولا هو «شيكًا على بياض»، إنه محصلة لأوضاع تتصل بالداخل ودول الجوار الجغرافى والظرف التاريخى الذى يمر به الإقليم عمومًا، وينطبق ذلك كله على «مصر» إذ أن لها مقومات ثابتة تتصل ببعدى الزمان والمكان أى الجغرافيا والتاريخ وهما بعدان ثابتان يستحيل المساس بهما، ولكن العوامل التابعة مثل الوضع الاقتصادى والاستقرار السياسى والازدهار الثقافى هى أيضًا عوامل أساسية تصاحب الدور الإقليمى وتدعمه، لذلك فإن ذلك الدور ليس معطاة زمنية تبدو وكأنها هبة إلهية فالأمر يختلف عن ذلك لأنه يخضع لحسابات القوة والضعف والموازين الاستراتيجية فى المنطقة كلها، ولقد كثر الحديث عن الدور الإقليمى لـ«مصر» وحان الوقت لكى نضع بعض النقاط على حروفها ونستعرض ذلك من خلال الملاحظات التالية:
أولًا: مازالت الذاكرة الوطنية فى «مصر» تحمل من المخاوف تجاه الدور الإقليمى بقدر ما تحمل من ذكريات عصور التوسع الخارجى للوجود المصرى فى المنطقة، فتجربة «محمد على» أدت إلى تأليب «أوروبا» عليه ومحاصرة «الإمبراطورية المصرية» سياسيًا حتى تمكن خصومه من تحجيم دوره وتقليص الدولة المصرية فى حدودها التاريخية بـ«اتفاقية لندن» 1840، وقد تعرضت «مصر الناصرية» لشىء من ذلك أيضًا إذ أن «الغرب» رأى فى سياسته القومية توسعًا وانتشارًا فى المنطقة للوجود المصرى فكانت ضربة 1967 للإجهاز على المشروع القومى وتحجيم دور «مصر» مرة أخرى، كما مازالت الذاكرة المصرية تحتفظ بشىء من السلبية لذكريات «حرب اليمن» التى دخلها الجيش المصرى فى مطلع ستينات القرن الماضى استجابة لنداء «الثورة اليمنية» ومحاولة لتخليص شعب عربى شقيق من قبضة الجهل والاستبداد والتخلف ولكن كانت النتيجة استنزافًا للقوات المسلحة المصرية وللاقتصاد المصرى أيضًا ومازالت تلك الحرب محل جدل حيث حاول بعض المفكرين والمؤرخين مقارنتها بالحملة الفرنسية على «مصر»، ولقد أصاب أستاذ الفلسفة الراحل د. «فؤاد زكريا» كبد الحقيقة عندما كتب مقاله الشهير «دهاء التاريخ» فى مقارنة بين الحملة الفرنسية على «مصر» والحملة المصرية على «اليمن»، لذلك كله ظل الضمير المصرى محتفظًا بالشكوك والمخاوف تجاه قضية الدور الإقليمى ودعاة الانتشار فى المنطقة وتكريس التواصل مع شعوبها.
ثانيًا: إن الحديث عن «مصر» القوية فى الداخل كنموذج للامتداد فى الخارج أمر لا نختلف عليه ولكن لا نقف عنده فالقضية برمتها أوسع من ذلك وأرحب لأن «مصر» ارتبطت دائمًا بظاهرة «الحضور الإقليمى» الذى جعل منها دولة مركزية محورية لها سيادتها القوية ومكانتها الرفيعة ودورها الذى لا يختفى، واللافت فى الأمر أن دعاة العزلة المصرية والانكفاء على الذات بحجة التفرغ للبناء الداخلى لا يدركون العلاقة الوثيقة بين دور «مصر» الإقليمى وازدهارها الداخلى فلقد علمنا التاريخ أن «مصر» دولة تقدم السياسة الرشيدة والقوة الناعمة بل وأحيانًا القوة الخشنة أيضًا فى مقابل دور إقليمى يأتى عائده فى صورة اقتصاد نقدى وعينى وسياحى فضلًا عن الإبهار الذى مارسه النموذج المصرى فى مراحل مختلفة من تاريخ المنطقة، ويكفى أن نتذكر أن «مصر» هى التى علمت وطببت وشيدت وبقيت فى ذاكرة الآخرين شقيقة كبرى يأتى منها الإشعاع الثقافى وهى تحتضن أبناء أمتها العربية وقارتها الإفريقية وعالمها الإسلامى فى احساس بالمسئولية التاريخية وإدراك عميق لمفهوم الدور الخارجى لدولة عريقة مثل «مصر».
ثالثًا: اتصل بى ذات صباح من عام 2008السفير المتميز «نبيل فهمى» الذى أصبح وزيرا للخارجية فيما بعد وقال لى «إقرأ صحيفة (البديل) فى عددها الصادر اليوم وستجد أن العنوان الرئيسى للصحيفة ـــ بغض النظر عن تقييمنا له ــــ سوف يجر عليك بعض المتاعب» فتلهفت لمعرفة العنوان فإذا هو أن كاتب هذه السطور يرى أن الرئيس الأسبق «مبارك» لا يهتم بالدور الإقليمى مما أدى إلى انكماش السياسة الخارجية المصرية فى المنطقة، وكان على أن أبرر وأن أدافع أمام الاتصالات الواردة من مؤسسة الرئاسة احتجاجًا على ما جاء فى الصحيفة وانتقادًا لما قلته فى محاضرة عامة نقلت عنها تلك الصحيفة، وواقع الأمر أن الذين يرصدون الخطوط العريضة للسياسة الإقليمية المصرية قد لاحظوا أنه برحيل «عبد الناصر» انكمش الدور المصرى إقليميًا وتراجعت مظاهر كثيرة له لدى دول مختلفة عربية وإفريقية وإسلامية، وبانتهاء عصر الرئيس «السادات» كانت القطيعة العربية شبه كاملة مع «مصر» لذلك اتصفت سنوات حكم الرئيس الأسبق «مبارك» بالحرص الشديد على تحجيم الحركة المصرية فى المنطقة العربية من منطلق يؤمن بأن الاهتمام بالداخل سوف يصب بعد ذلك فى قيمة الدولة بالخارج، كما أن الحذر الغريزى الذى تميز به الرئيس الأسبق «مبارك» جعله يبتعد عن التورط فى أية مغامرات عسكرية أو مواقف حادة خشية النتائج السلبية لذلك على استقرار «مصر» وسلامتها، ولكن احتفظت «القاهرة» بعلاقات وثيقة مع دول «الخليج العربى» بلغت ذروتها عند غزو «العراق» لـ«الكويت» حيث شاركت «مصر» بقواتها فى حرب التحرير ولكن «مبارك» سحب قواته غداة تحرير «الكويت» خشية استخدامها فى دخول أراضٍ عربية أخرى فى ظل الأوضاع التى كانت قائمة حينذاك.
رابعًا: برز فى العقدين الأخيرين توجه يعادى الدور الريادى لـ«مصر» حيث شب الصغار على الطوق وبدأ بعض منهم يتطاولون على الدور المصرى ويتوهمون أنهم فى منافسات معه بعد أن لاحظوا الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها البلاد فضلًا عن الإرهاق السياسى والاستنزاف العسكرى الذى تتعرض له «مصر» فى السنوات الأخيرة لأسباب لا تخفى على أحد، ومع ذلك تظل أبواق مأجورة ساعية للتشهير بدولة «الأزهر» و«الكنيسة القبطية» والجامعات المزدهرة والأحزاب السياسية والنقابات المهنية ولكن تبقى «مصر» فى النهاية ابنة شرعية للجغرافيا السياسية وعطاءًا سخيًا للتاريخ الوطنى.
هذه ملاحظات أردنا بها أن نقول إن دور «مصر» الإقليمى ليس منحة من أحد وأن عروبتها هى ابنة التاريخ العريق والأمجاد الغابرة .. ولن تسقط «مصر» أبدًا.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 46992
تاريخ النشر: 4 أغسطس 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/417925.aspx