سمع الملك الراحل «الحسن الثاني» ملك «المغرب» عن شاب واعد اسمه «محمد بن عيسى» درس فى «مصر» و«أوروبا» و«أمريكا» وتميز بحس ثقافى رفيع وملكات فكرية وسياسية متميزة ويرعى منتدًى بازغًا فى «مدينة أصيلة» ذات المبانى العريقة والشخصية المعمارية المتميزة والتاريخ الطويل فى «شمال المغرب» غير بعيدة عن «مدينة طنجة» على «الزاوية الإفريقية» عند ملتقى «البحر المتوسط» و«المحيط الأطلنطى» معًا، وجاءه الفتى بموعد حدده القصر الملكى فرأى الملك الراحل شابًا غير متكلف فى مظهره أو مخبره ويتصرف ببساطة وذكاء شديدين فكان أن عهد إليه بعد فترة وجيزة بمنصب وزير ثقافة «المغرب» ثم عمل فى السلك الدبلوماسى سفيرًا لبلاده فى «واشنطن» ثم أصبح وزير خارجية «المغرب» وامتد شغله لذلك المنصب حتى تولى الملك «محمد السادس» الذى استبقاه لفترة حتى يلتئم شمل العهدين ويحصل الابن على خبرات والده من خلال كبار معاونيه، وتضرب علاقتى بالسيد «محمد بن عيسى» إلى سنوات طويلة التقيته فى «المغرب» وفى «القاهرة» وفى «واشنطن» وفى «باريس» أيضًا وتلمست فيه الحس الراقى والأدب الرفيع والفهم الدقيق للحياة المصرية مع حب لها وتعاطف دائم معها، وأتذكر أننى جلست إلى جواره على العشاء فى القصر الملكى بـ«الرباط» فى ضيافة الملك «الحسن الثاني» ولاحظت أن صديقى «محمد بن عيسى» لا يأكل إلا قليلًا جدًا رغم فخامة المائدة وتنوع الأطباق فسألته عن السبب فقال لى إنه يمضى على نظام غذائى خاص حدده له الطبيب فى «باريس» وقال لى إنه سأل ذلك الطبيب (إذا كنت قد منعتنى من الطعام الشهى والشراب ومنعت عنى معظم متع الحياة فبأى مرض سأموت إذن؟) فقال له الطبيب على الفور ساخرًا: (بالنكد طبعًا!)، ذلك هو «محمد بن عيسى» المضيف لـ«مهرجان أصيلة السنوى» وصاحب فكرته وراعى نشأته وداعم مسيرته، وقد التقيته منذ عامين فى «الشارقة» وأميرها المثقف يحتفى به ويعطيه جائزة «رجل العام» دوليًا وعربيًا، وقد دعانى الوزير «محمد بن عيسى» عدة سنوات من قبل للمشاركة فى «مهرجان أصيلة» ولكن الظروف كانت دائمًا بالمرصاد حتى كاد أن يعتب على بسبب ذلك، ولذا عندما تلقيت دعوته الكريمة هذا العام شعرت بأنه لابد أن أحضر ذلك المهرجان الفريد خصوصًا بعدما سمعت من كل من حضروه فى سنوات سابقة ثناءً وإعجابًا به، ولقد كانت القضية المطروحة ذات أهمية كبرى فى هذا التوقيت فهى تدور حول قضية (نكون أو لا نكون) وقد كنت متحدثًا فى يومها الأخير ودارت أهم الأفكار المطروحة حول النقاط التالية:
أولًا: إذ يحتفل مهرجان «أصيلة» هذا العام بمرور سبعة وثلاثين عامًا على بدايته عام 1978 فقد امتلك ذلك المهرجان منذ اليوم الأول أسباب النجاح والاستمرار لأنه وضع تقاليد مضى عليها حتى الآن، ولقد شارك فيه هذا العام من المصريين السادة «عمرو موسى» و«نبيل فهمى» و«منى مكرم عبيد» و«سليمان جودة»، ولقد حضر المهرجان هذا العام شخصيات عربية ودولية كبيرة يتقدمهم السيد «فؤاد السنيورة» رئيس وزراء «لبنان» الأسبق و«ياسر عبد ربه» من «فلسطين» و«مصطفى عثمان» من «السودان» و«رضوان السيد» من «لبنان» والوزيرة «سميرة رجب» من «البحرين» و«شبلى تلحمى» من «الولايات المتحدة الأمريكية» بالإضافة إلى وزير إيرانى سابق وعدد كبير من نجوم الفكر والسياسة من الدول العربية فى «الشرق الأوسط» و«شمال إفريقيا».
ثانيًا: كان محور المهرجان هذا العام هو (العرب .. نكون أو لا نكون!) وقد تحدث ضيوف المهرجان ورواده حول هذا الموضوع باستفاضة وعمق وجاء دورى فى جلسة ساخنة موضوعها (الدين والسياسة فى العالمين العربى والإسلامى والمشكلات الطائفية الناجمة عن ذلك)، وقد تحدثت بحياد وموضوعية مقدمًا الحالة المصرية كنموذج لأنها الأكثر ثراءً والأبعد تاريخًا والأقوى تأثيرًا فى حركة «الإسلام السياسى» كله، وقد خلصت من الحوار الممتد إلى ضرورة تشجيع روح الأديان السماوية لما تدعو إليه من فضائل يحتاجها المجتمع الإنسانى المعاصر دون الانخراط فى عملية توظيف الدين لخدمة أهداف سياسية وأغراض مرحلية خصوصًا أن الدين متجزر خصوصًا فى الحالة المصرية منذ توصل «إخناتون» إلى «فلسفة التوحيد» مرورًا بـ«الإسكندر الأكبر» الذى ذهب إلى معبد الإله «آمون» تقربًا إلى المصريين وصولًا إلى «بونابرت» الذى أصدر منشوره الشهير غداة وصوله إلى «مصر» يغازل «الدين الإسلامى» و«نبيه الكريم» ليصل إلى قلوب المصريين لذلك فإن الأمر يحتاج إلى حذر شديد عند إقحام الدين فى السياسة لأنها قضية ملتهبة وقد تظل كذلك لعقود قادمة.
ثالثًا: ما من مرة زرت بلدًا إلا واستبدت بى المقارنة مع أوضاعنا، ولقد شعرت من زيارتى لـ«المغرب» الشقيق بالأشواط التى قطعها المغاربة نحو الاستقرار السياسى والتقدم الاقتصادى والسلام الاجتماعى بعد أن قاد «الملك المستنير» ثورة بيضاء تالية لـ«ثورات الربيع العربى» فسبق الجميع لتلبية مطالب شعبه فى «الديمقراطية» و«العدالة الاجتماعية» وتبنى مطالب المعارضة قبل أن تخرج بها إلى الشارع السياسى، ولقد بهرنى التقدم فى «المملكة المغربية» خصوصًا شبكة الطرق الضخمة فى أنحاء تلك المملكة المترامية الأطراف وإن كنت وضيوف المهرجان من أنحاء العالم قد شعرنا بإجهاد لقطع المسافة برًا بين «الدار البيضاء» وكل من «طنجة» و«أصيلة» على امتداد أربع ساعات بالسيارات فور الهبوط من الطائرة أو عند العودة للحاق بها، كما أن الإقامة فى مدينة «طنجة» الرائعة بعيدًا عن مدينة «أصيلة» التى تبدو لى أسطورة ترتبط باسم «محمد بن عيس» والمسافة بين المدينتين كل يوم ذهابًا وإيابًا كانت هى الأخرى مصدر إرهاق لبعض الحاضرين وأنا منهم ولكن ذلك لا يقلل على الإطلاق من ضخامة وفخامة ذلك المهرجان مظهرًا وجوهرًا فقد ارتاده المفكرون العظام وروادنا الكبار، ولا أعرف لماذا تذكرت فى الجلسة الافتتاحية اسم الروائى السودانى الراحل «الطيب صالح» فى «موسم الهجرة إلى الشمال» خصوصًا وأننى كنت أقرأ له كل عام انطباعه عن مشاركته فى مهرجان «أصيلة الثقافى» وما يحيط به ويرتبط بفعالياته.
إن المهرجانات الدولية المرتبطة بالثقافة السياسية هى عنصر فاعل فى تطوير الفكر وبلورة الرؤيا واستشراف المستقبل.. التقدير لـ«محمد بن عيسى»، والإعجاب بـ«أصيلة»، والتحية لأشقائنا على «شاطئ الأطلسى» أو عند التقائه بـ«البحر الأبيض المتوسط» بحيرة الحضارات، والمخزون التاريخى للثقافات، والملتقى الروحى للديانات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47006
تاريخ النشر: 18 أغسطس 2015
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/423262.aspx