تحدث فى «مصر» أحيانًا أزمات طائفية محدودة ولكنها ليست فتنة طائفية عميقة الجذور، عرفت «مصر» فى تاريخها بعض المواجهات بين مسلميها ومسيحييها ولكن الروح الوطنية امتصتها فى أسرع وقت وتمكن العقل الجمعى للأمة المصرية من أن ينبذ تلك المواجهات إذ يكفى أن نتأمل العلاقة بين بسطاء الناس من الديانتين لكى ندرك أن «مصر» أرض التسامح والمحبة بين أبنائها من جميع الديانات فهل يعلم القارئ أن فى «مصر» ثمانية «معابد يهودية» بحالة جيدة وفى مواقع ممتازة وصالحة للزيارة فى أى وقت، إنها «مصر» التى تنصهر فى بوتقتها كل الجماعات البشرية المكونة لها والتى عاشت على أرضها لذلك نظر إليها المسيحيون العرب أثناء الحكم التركى واستبداد العصر العثمانى باعتبارها واحة الأمان وملاذ الأحرار فى كل وقت، جاءتها عائلة «تقلا» لتؤسس أهم صحيفة فى تاريخ «الشرق الأوسط» وهى «الأهرام» وجاءها البيروتى «جورجى زيدان» ليؤسس «دار الهلال» وسعى إليها «خليل مطران» و«شبلى شميل» و«خليل ثابت» و«فرح أنطون» وقبلهم «يعقوب بن صنوع» وفى مجال السينما والمسرح حدث ولا حرج فالفنانون المسيحيون العرب سعوا إلى «مصر» دائمًا منذ البدايات الأولى وصولًا إلى «صباح» و«وديع الصافى» ولانكاد نستثنى إلا فنانة عظيمة واحدة عكفت فى دارها ولكن الشعب المصرى أحبها على البعد وعشق صوتها الملائكى وهى «فيروز» ولقد كانت مدينة «الإسكندرية» فى فترة معينة من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مركزًا لاستيطان عائلات شامية مسيحية امتد وجودها إلى «القاهرة» و«الإسكندرية» و«بورسعيد» و«أسيوط» وغيرها من مدن «مصر» حيث تملكوا الأراضى واشتغلوا بالتجارة وعاشوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج المصرى الواحد فى وقت كان فيه وزير المالية المصرى هو «قطاوى باشا» اليهودى وكان «حاخام» اليهود عضوًا فى لجنة وضع الدستور، وقد لعبت الكنيسة الوطنية المصرية «الارثوذكسية» دورًا جاذبًا بحكم ثقلها ومكانتها، فالأقباط المصريون هم أكبر تجمع مسيحى عربى على الإطلاق ومكانتهم القومية ودورهم العربى جسدته شخصيات منهم فى مقدمتها «مكرم عبيد» باشا سكرتير عام حزب الأغلبية ورفيق «سعد زغلول» و«مصطفى النحاس» وهو الذى زار «حيفا» و«يافا» و«عكا» و«بيروت» و«دمشق» فى ثلاثينيات القرن الماضى وقبل قيام «جامعة الدول العربية» وألقى خطبًا تاريخية أزال بها الحساسيات الموروثة لدى بعض «الأقباط» تجاه مفهوم «العروبة» كذلك فإن الدور القومى لـ«البابا» الراحل «شنودة الثالث» كان له أثر عميق فى الوجدان العربى المعاصر حتى أطلق عليه الكثيرون «بطريرك العرب» نظرًا لمواقفه القومية الواضحة خصوصًا فى دعم القضية الفلسطينية وكشف الزيف فى دعاوى «إسرائيل» الدينية وأسانيدها التاريخية لذلك كان الزعيم الفلسطينى الراحل «ياسر عرفات» يمر بـ«الكاتدرائية المرقسية» لزيارة «البابا» كلما وصل إلى مطار «القاهرة» تقديرًا منه وعرفانًا بدور ذلك الحبر الدينى الجليل واعزازًا لمكانة «الأقباط» لدى أشقائهم «العرب» مسيحيين ومسلمين، وقد لا يعلم البعض أن شيخ «الأزهر» الحالى الإمام الأكبر الدكتور «أحمد الطيب» قد دعا إلى قيام «بيت العائلة» شراكة بين «الأزهر الشريف» و«الكنيسة الوطنية المصرية» بعد حادث الاعتداء الوحشى على إحدى كنائس «العراق» وكان ذلك قبل اندلاع «ثورات الربيع العربي» فى وقت تزايد فيه نزوح أعداد كبيرة من المسيحيين العرب تاركين بلادهم هربًا من موجات «الإرهاب» وضغوط العنف التى تعرضوا لها فقد نزح من «العراق» عشرات الآلاف من «السريان» و«الكلدانيين» وغيرهم من أتباع الكنائس الشرقية فضلًا على أهل «الطائفة اليزيدية» من «الصابئة» الذين تعرضوا لألوان من القسوة والعنف التى تبدو غير مسبوقة فى المنطقة التى ظهرت فيها الديانات السماوية، وقبلهم نزحت أعداد كبيرة من «الموارنة» تاركين وطنهم اللبنانى بسبب القلاقل والاضطرابات التى أصبحت سمة عامة فى المنطقة، ويظل الدور المصرى متميزًا فى هذا السياق فالأحداث الطائفية يجرى إخمادها فى مهدها كما أن «الأقباط» المصريين فى معظمهم هم نموذج للوطنية المشبعة بروح الإخاء والمحبة، كذلك فإن اسهامهم الدولى رائع ورائد، فقد وصل القبطى المصرى «بطرس بطرس غالي» إلى أعلى وظيفة دولية فى عالمنا المعاصر وظل الـسير «مجدى يعقوب» رائدًا لجراحة «القلب المفتوح» تعترف به كل الدوائر الطبية فى العالم، ومازالت أصداء العبارة الوطنية الحكيمة التى أطلقها البابا الحالى «تواضروس الثانى» غداة الممارسات الطائفية الحمقاء بالعدوان الواسع على الكنائس المصرية عقب ثورة 30يونيو 2013حين قال قداسته «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن» ولقد قال لى مسيحى عربى ذات يوم هو المفكر اللبنانى «فيكتور سحاب» (إن المسيحيين العرب يؤمنون بأن الاعتراف بدور «مصر» والالتزام بقيادتها القومية هو معيار «العروبة» فى نظرهم)، وحين صدحت «فيروز» قائلة (مصر عادت شمسك الذهب) وحين جلجل صوت «وديع الصافى» (عظيمة يا مصر يا أرض النعم يا مهد الحضارة يا أرض الكرم) أدركنا أن «مصر» كانت ولاتزال هى القلعة وهى الحصن وهى الملاذ لكل من يعرف قدرها ويفهم روحها ويدرك دورها ولعلنا نعلم ــــ كما يعلم غيرنا ـــ أن الشخصية المصرية عصية على المغالاة والتطرف رافضة للتشدد والعنف فهى وسطية المزاج يحكمها قدر كبير من التسامح فيما تقول وماتفعل ويدرك مثقفوها ومفكروها أن «الحركة القومية» قد ولدت على أيدى المسيحيين «الشوام» وندرك أيضًا أن «الأديرة» و«الكنائس» القديمة قد حافظت على «المخطوطات الأثرية» و«الكتب القيمة» و«الوثائق النادرة» التى يحفل بها التاريخ العربى المعاصر، إنهم عرب «جبران خليل جبران» و«ميخائيل نعيمة» و«حنا مينا» وغيرهم ممن يرون فى «مصر» المظلة الكبرى للجميع، فما بالك حين تكون هى دولة القوى الناعمة، دولة «الأزهر» و«الكنيسة» التى تعترف بفضل الجميع وتحتوى الجميع بغير استثناء، ولعلنا نشير هنا إلى أن «مصر» لا تقف وحدها حبًا وتأمينًا للمسيحيين العرب بل إن البيوت المالكة والأسر الحاكمة فى الخليج العربى لم تفرق هى الأخرى بين عربى مسلم وعربى مسيحى فحفلت قصورهم بالمستشارين من أهل الخبرة مسيحيين ومسلمين على السواء دون تفرقة ذلك أن الروح القومية حين تسود والفكر العروبى حين يعلو تصبح الديانات مشاعر شخصية وايمانًا ذاتيًا لا يؤثر فى سواه بل يقبل خيارات الآخر فى رحابة وانفتاح دعت إليهما كل الديانات. إن «مصر» التى احتضنت «العروبة» ورحبت بــ«الإسلام» هى ذاتها «مصر» التى استقبلت «المسيحية» بالتوقير الذى يليق بها فكانت بحق أرض السماحة التى انصهرت فوقها كل الثقافات، وأمنت فيها الديانات، وتعاقبت عليها الحضارات.
جريدة الاهرام
29 سبتمبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/436815.aspx