الأستاذة الدكتورة «عائشة راتب» وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق هى أول سفيرة فى تاريخ الدبلوماسية المصرية، كما أن الدبلوماسية الراحلة «بهيجة موسى عرفة» ابنة وزير السد العالى الأسبق والسفيرة «ميرفت التلاوى» وزير الشؤون الاجتماعية الأسبق تسبقان معاً فى الأقدمية من نكتب عنها اليوم، ولكن الثابت والمؤكد هو أن «هدى المراسى» رحمها الله كانت أول دبلوماسية مصرية تبدأ التدرج الوظيفى من درجة ملحق دبلوماسى بعد تخرجها فى كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية بجامعة «الإسكندرية» وهى تنتمى لعائلة عريقة من مركز «بسيون» محافظة الغربية.
ومازلت أتذكر ذلك اليوم من صيف عام 1968 عندما جرى إلحاقى بإدارة غرب أوروبا بوزارة الخارجية فى مقرها القديم بشارع النيل بالجيزة ويومها استقبلتنى الزميلة الراحلة وغيرها من أعضاء الإدارة التى كان يديرها السفير القدير الراحل «جمال منصور» بشىء من التحفظ لأننى كنت من ضمن المعينين بقرار جمهورى من الرئيس «عبدالناصر» قبل ذلك بعامين وعندما مرت أسابيع قليلة كنت قد أصبحت ابن الإدارة المحبوب وتوثقت صلتى كثيراً بتلك الزميلة الغالية صاحبة الشخصية القوية والروح المرحة والذكاء الحاد والثقافة الواسعة فضلاً عن بهاء الطلعة وحسن المظهر وأخذت تحكى لنا عن معاناتها فى العاصمة الفرنسية لمدة أربع سنوات فى أول خدمة لها بالخارج وكيف أن السفير هناك قد استهدفها كثيراً واضطهدها إلى حد كبير لأنها كانت تعيش قصة حب بريئة مع شاب مصرى متميز هو واحد من ألمع كتابنا الصحفيين بعد ذلك وأكثرهم عمقاً واستغراقاً فى الفلسفة عند تحليل الأمور وكانت العائلة فى مصر على بينة من هذا الشأن الشخصى المعروف لهم جيداً ولكن السفير أبى إلا أن يضع الدبلوماسية الشابة تحت ضغوط نفسية لا مبرر لها، وأتذكر أن الأستاذ الدكتور «أحمد فتحى سرور» كان مستشاراً ثقافياً فى السفارة المصرية فى «باريس» حينذاك.
وتمثل «هدى المراسى» علامة مميزة لفتاة مصرية رائعة بدأت من درجة ملحق دبلوماسى فى «باريس» ثم خدمت فى «السنغال» ثم فى «روما» كمستشار ووزير مفوض ثم جرى تعيينها سفيرة فى العاصمة الإيطالية مباشرة استمرارًا لخدمتها هناك فى قرار غير مسبوق يعكس احترام قدراتها والإيمان بكفاءتها والتسليم بشخصيتها الدبلوماسية الجذابة وقدرتها على اكتساب الأصدقاء لوطنها وقضاياها، وكانت قد تزوجت من زميلنا الدبلوماسى اللامع الدكتور «فايز بكتاش» وقد كان شاباً يسارى الميول تولى إدارة المعهد الدبلوماسى بعدى مباشرة فى منتصف تسعينيات القرن الماضى وقد أنجب منها ابنتين كانتا قرة عين لأمهما الراحلة، ولقد امتد نشاط «هدى المراسى» فى العاصمة الإيطالية مع نهاية ثمانينيات القرن الماضى ومطلع تسعينياته.
وأتذكر أن الصديق العزيز الفريق «أحمد شفيق» وزير الطيران المدنى وصاحب الإنجازات المبهرة فى ذلك القطاع كان هو الملحق العسكرى فى العاصمة الإيطالية حينذاك، وذات يوم تلقيت اتصالاً من الزميلة والصديقة «هدى المراسى» تخبرنى أنا وزوجتى أنها سوف تدخل المستشفى لإجراء جراحة دقيقة فى العمود الفقرى وأنها تفضل مستشفى «مصطفى كامل» العسكرى بالإسكندرية وتثق فى كفاءة أطبائه من خلال تجربة سابقة لها هناك ولكن بعض الأطباء فى «روما» نصحوها بإجراء تلك الجراحة فى العاصمة الفرنسية «باريس» تفادياً لاحتمالات التلوث فى تلك الجراحة الدقيقة وإنها استجابت لنصيحتهم على غير رغبتها وستجريها فى العاصمة الفرنسية ومن الغريب أن «هدى المراسى» رحلت عن عالمنا نتيجة تلوث الجرح أثناء تلك الجراحة فى المستشفى الفرنسى الشهير وليس فى أحد مستشفياتنا فى «مصر»!
ومازلت أتذكر ذلك المساء الحزين حين استقبلت اتصالاً هاتفياً مفاجئاً من سفيرنا الراحل فى «باريس» «أحمد صدقى» وهو يبكى بصوت مرتفع ويطلب منى إبلاغ السيد رئيس الجمهورية والسيدة قرينته أن «هدى المراسي» قد غادرت الدنيا منذ دقائق ولن أنسى ذلك المقال الرائع الذى كتبه عنها ذلك الصحفى اللامع الذى أحبها فى شبابه وأدرك قيمتها وسحر شخصيتها، وقد كنت فى استقبال جثمانها الطاهر مع عائلتها وزملائها وزميلاتها بمطار «القاهرة» ليستقر وديعة فى ثرى «مصر» إلى يوم الدين بعد رحلة عطاء ثرية وإن لم تكن طويلة، عظيمة وإن لم تكن سعيدة ..
وذات يوم منذ سنوات جاءنى اتصال من الصوت الواهن لوالدتها الحزينة تقول لى إن هناك شارعًا قصيرًا بجوار منزلهم فى «الإسكندرية» وليس له اسم محدد وأنها تتمنى أن يطلق اسم ابنتها الراحلة عليه اعترافاً بما قدمته من خدمات لوطنها، وقد استجبت لمطلبها فوراً واتصلت بمحافظ الثغر حينذاك اللواء «محمد عبد السلام المحجوب» الذى وافق بحماس وأحال طلب العائلة إلى المجلس المحلى للإسكندرية، وشهدت الأم الراحلة بعد ذلك بأسابيع قليلة الاحتفال بوضع اسم «هدى المراسى» على ذلك الشارع المجاور لهم والذى كان طريقاً تسلكه الدبلوماسية الراحلة فى طريقها إلى المدرسة والجامعة بالعاصمة الثانية.
.. رحم الله من أعطت للوطن وكانت صورة رائعة للمرأة المصرية فى عيون العالم.
جريدة المصري اليوم
2 ديسمبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/50499