لفت نظرى فى السنوات الأخيرة تناوب الوزراء على الحقيبة الواحدة بمعدل سريع حتى أصبح وجود الوزير فى منصبه لا يتجاوز أحيانًا شهورًا قليلة وذلك بسبب الظروف التى تمر بها البلاد وتداعيات ثورة 25 يناير 2011، وإذا كان البعض يرى أن ذلك يدل على حيوية النظام السياسى فإننى أراه مؤشرًا سلبيًا ينال من استقرار السياسات، ويؤدى إلى حالة من الانقطاع المفاجئ فى مسيرة كل وزارة بل وتحويلها أحيانًا إلى اتجاه مختلف، خصوصًا أن وزارات ذات حساسية خاصة قد عانت من ذلك، ولعلى أذكر منها على سبيل المثال وزارتى التعليم ووزارة الثقافة أيضًا، فلقد كنا نشكو فى حكم الرئيس الأسبق «مبارك» من طول بقاء الوزير فى موقعه حتى تجاوز بعضهم العشرين عامًا على قمة وزارته فإذا بنا نحن ننتقل الآن إلى النقيض فلا يستمر الوزير مدة تكفى لتطبيق الأفكار الجديدة ولا متابعة السياسات القائمة بل تؤدى بعض التغييرات إلى انقلاب فى مفهوم العمل الوزارى وأهميته فى بلادنا وربما يرجع ذلك إلى التعجل فى اختيار بعض الوزراء الذين لم يختبروا فى مواقعهم العملية على نحو كافٍ فضلًا عن عزوف كثير من الشخصيات المؤهلة عن قبول المنصب بسبب حملات التجريح الإعلامى أحيانًا أو الشعور بقصر المدة المتوقعة فى المنصب أحيانًا أخري، فضلًا عن الاحساس بشيوع سياسة «الأيدى المرتعشة» التى يعانى منها بعض الوزراء وتؤدى إلى عجزهم عن اتخاذ القرار المناسب عند اللزوم، وما أكثر الفرص التى ضاعت على الدولة المصرية نتيجة غياب روح المبادرة والإحجام عن اتخاذ القرار الصحيح فى الوقت المناسب وتفضيل حالة السكون و تجميد المواقف بدلًا من الدخول إلى المشكلات والتعامل معها فى شجاعة وشفافية ووضوح، والملاحظ أن منصب الوزير فى بلادنا يأخذ أكثر من حجمه حتى يتحول بعضهم أحيانًا إلى «فرعون» صغير على مقعده، بل إننى هنأت أحيانا بعض الوزراء الجدد فوجدت أن نغمة الصوت قد اختلفت واكتشف أن الشخصية قد تغيرت فجأة وقد لا يستعيد الوزير توازنه إلا بعد أن يترك منصبه وتلك ظاهرة لا نظير لها فى معظم دول العالم، فالوزير غالبًا ما يكون سياسيًا أو خبيرًا كبيرًا فى مجاله يأتى للعطاء فترة معينة ولا يكتشف لنفسه ميزة على سواه حتى أن النظام الفرنسى يطلق على رئيس الوزراء لقب «الوزير الأول» وهو ما تأخذ به بعض الدول العربية فى الشمال الإفريقى أيضًا باعتبار أنه لا يعدو أن يكون «الأول بين متساويين» وإذا دخلت محفلًا عامًا ــــ زفافًا أو عزاءً ـــ سوف تجد أن حجم الوزير يحتل مساحة كبيرة فى عقل من يستقبله ويجرى تمييزه بشكل مبالغ فيه لا أجد له مثيلًا حتى فى دول عربية شقيقة أو دول إفريقية صديقة استوعبت تقاليد الغرب وبدأت تعيش روح العصر ونحن مازلنا ندق «دفوف الفراعنة ونحمل مباخر المماليك»! دعونا نناقش النقاط التالية:
أولًا: الأصل فى وظيفة الوزير أنه المستشار الأول للدولة فى تخصصه والمسئول التنفيذى الكبير فى القطاع الذى يتحمل مسئوليته ولأن الوزارة تقوم على زالمسئولية التضامنيةس فإن التناغم بين أعضائها والتفاهم بين وزرائها أمر ضرورى وإلا وجدنا أنفسنا أمام جزر منعزلة ليس بينها ضابط ولا رابط لذلك فإن تغيير وزير معين لابد أن يتوافق مع المجموع الكلى للوزراء وأن يكون امتدادًا طبيعيًا لروح الفريق لديهم، ومنصب الوزير ليس تحليقًا نظريًا فى فرع من فروع المعرفة ولكنه تكليف رسمى لتقديم الخدمة أو رفع معدل الإنتاج وفقًا لطبيعة المسئولية التى يتحملها فما أكثر الوزراء الذين كانوا أساتذة مرموقين فى الجامعات ولهم كثير من المؤلفات ولكن قدرتهم محدودة فى علم الإدارة ورؤيتهم مقصورة عن تخيل المشروع الوطنى لوزاراتهم لذلك فإن الوزير يجب أن يكون واقفًا على أرض نظرية صلبة ولكنه يملك فى الوقت ذاته حرية الحركة من أجل التغيير والتطوير.
ثانيًا: إننا يجب أن نتعامل مع التكليف الوزارى باعتباره مسئولية وليس مجرد مظهرية تقف عند حدود «الأبهه» والحراسة والتلميع الإعلامى إذ أن الوزارة هى جهاز تنفيذى لسياسة معدة سلفًا وفقًا للمصالح العليا للبلاد وهى مصالح لا تحتمل العبث ولا الدخول فى التجارب غير المدروسة ولا شراء رضا الرأى العام فى المدى القصير على حساب مستقبل الأجيال القادمة، إننا يجب أن نطالب بدراسات مستقرة ومستمرة لأن التغيير الدائم يؤدى إلى نتائج سلبية يدفع الوطن ثمنها فى النهاية.
ثالثًا: لعلنا نلاحظ أن الوزراء الحاليين (ربما فى العصر الجمهورى كله) هم وزراء فنيون فى معظمهم وليسوا وزراء سياسيين، هل أتى إلينا صاحب مدرسة فكرية فى التعليم مثل «طه حسين» الذى رآه كالماء والهواء؟ أو حتى مثل «إسماعيل القباني» الذى آثر الدقة فى الاختيار والانتقال التدرجى فى التعليم إلى أعلي؟ لم تعد لدينا هذه المدارس الفكرية ذات التوجهات السياسية لأن الوزير أصبح فنيًا تنفيذيًا ليس لديه فى الغالب رؤية سياسية ولا نظرة بعيدة لأنه مكبل بقيود الوظيفة وأغلال التعليمات غير المدروسة فى كثير من الأحيان، لذلك فإننى أقول صراحة إن دوام السياسات هو أمر مطلوب من أجل استقرار الإصلاح ولكن ذلك لا يمنع من الحاجة إلى الوزير السياسى الذى يمتلك فكرًا متميزًا يطرحه على الشعب وبرلمانه والمجتمع وأجهزة إعلامه لعله يصل إلى صيغة توافقية حول القضايا الحساسة التى تمس رجل الشارع خصوصًا تلك المتصلة بالتعليم والصحة.
رابعًا: إن ضرورة العودة إلى نظام زالوكيل الدائم للوزارةس والذى يدير زدولابس العمل اليومى ويستمر فى إدارة الوزارة بغض النظر عن شخص الوزير بحيث يصبح ذلك «الوكيل الدائم» هو أكبر الفنيين والتنفيذيين معًا وهو القادر على ضمان الاستمرارية والحفاظ على قوة الدفع الدائمة التى لا تتأثر بالتعديلات أو التغييرات الوزارية لأننا عانينا كثيرًا من عمليات الصعود والهبوط التى لا مبرر لها فى أجهزة الوزارات المختلفة، لذلك فإن فكرة «الوكيل الدائم» قد تكون ضمانًا لحالة الاستقرار المطلوبة فى المؤسسة الوزارية الحديثة.
هذه رؤيتنا الموجزة تجاه قضية تغيير الوزراء بشكل سريع وتأثيره على استقرار السياسات وتحقيق الأهداف مع السقوط فى الصراعات التى لا مبرر لها حتى رأينا نماذج لمسئولين كبار يسفه كل منهم من سبقوه ويغلق الباب أمام من يلحقوه! ويواصل التصريحات العابثة والكلمات المطاطة والتصريحات الوردية والشعب لا يجنى من ذلك شيئًا.. إننا نريد دولة عصرية ديمقراطية مستقرة توازن بين حيوية التغيير واستقرار السياسات.
جريدة الاهرام
13 أكتوبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/443409.aspx