إننى لا أهدف من هذه السلسلة- عن شخصيات عرفتها فى حياتى- أن أسجل عنهم نبذة تاريخية أو مساراً وظيفياً، ولكننى أهدف بالدرجة الأولى إلى إلقاء الضوء على بعض المواقف فى حياتهم التى كنت شاهداً قريباً أو طرفاً مباشراً فيها، لذلك تحاشيت الكتابة عن عدد كبير من أصدقائى الذين ارتبطت بهم مسيرة العمر من أمثال الدكاترة «مفيد شهاب» و«على الدين هلال» و«زاهى حواس» والمستشار «عبدالمجيد محمود» وغيرهم ممن لمعوا فى الحياة العامة كل فى تخصصه، ولقد خرجت عن هذه القاعدة، وكتبت من قبل عن أصدقاء أعزاء لهم مكانتهم الدولية مثل: الدكتورين «محمد البرادعى» و«أحمد زويل»
وقد فكرت مؤخراً فى ضرورة التحرر من قيد الصداقة الشخصية أو الحذر فى تناول مَن لايزالون فى قيد السلطة، لكى أكتب عمن أعرف دون حساسية، لأن مكانتهم تسبق صداقتهم مهما كلفنى ذلك من انتقاد المعاصرين وهجوم الخصوم، وها أنا ذا أكتب عن شخصية عرفتها عن قرب شديد على امتداد ما يزيد على أربعين عاماً، إننى أعرف الدكتور «مفيد محمود شهاب» منذ عام 1965 عندما كان عائداً لتوه بدرجة الدكتوراه فى القانون الدولى من «باريس»، حيث كان مدرساً فى «حقوق القاهرة» ويشغل منصب الأمين العام المساعد للشباب فى الاتحاد الاشتراكى العربى والسكرتارية العامة لمنظمة الشباب العربى الاشتراكى، لقد كان عائداً ببساطته المعهودة ومشيته المميزة وابتسامته الدائمة، ثم تشكل وفد برئاسته وكنت عضواً فيه ومعنا أيضاً عامل وفلاح لمتابعة نشاط الشباب الاشتراكى فى محافظتى «الإسكندرية» و«البحيرة» وهما المحافظتان اللتان ننتمى إليهما بالترتيب واستقبلنا وقتها «حمدى عاشور» محافظ الثغر، والمحافظ «وجيه أباظة» فى «دمنهور»، وقضينا فى تلك الجولة عدة أيام اقتربت فيها كثيراً من الدكتور «مفيد»، وشدتنى إليه روحه المرحة وشفافيته الواضحة وقد استقبلنا والده الراحل مدير «الليسيه» بالإسكندرية فى مؤتمر طلابى ناجح، وأتذكر أن شقيقة الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» السيدة «عايدة» كانت بين الطالبات، فكانت تلك إضافة جديدة، لأننى كنت زميلاً لابنة الزعيم نفسه فى الجامعة وها أنا أرى أخته أيضاً فى المدرسة.
ولقد تتابعت علاقتى بالدكتور «مفيد شهاب» ولم تنقطع أبداً، ومازلت أتذكر له مواقف عديدة منذ أن جرى اعتقاله غداة ثورة التصحيح فى منتصف مايو 1971 عندما اعتبره الرئيس «السادات» محسوباً على مجموعة «على صبرى» باعتباره أميناً للشباب فى «الاتحاد الاشتراكى العربى» حينذاك، وقد قضى عدة شهور رهن الاعتقال دون تهمة واضحة أو تبرير معقول وعندما خرج من محنته عمل مستشاراً قانونياً مرموقاً فى منطقة الخليج وشارك فى عمليات التحكيم الدولى العربية والدولية بعد أن اقترن بزوجته الفاضلة، وهى أستاذة جامعية يمتد نسبها إلى أستاذ الجيل «أحمد لطفى السيد»
وذات صباح فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى طلب منى السيد رئيس الجمهورية، حين كنت أعمل معه، أن أستدعى الدكتور «مفيد شهاب» للقائه، وكانت تلك هى بداية دوره المعروف فى قضية «طابا» التى استعادتها «مصر» بإجراءات قانونية دولية غير مسبوقة يرجع الفضل فيها إلى رجال من أمثال «حامد سلطان» و«وحيد رأفت» و«مفيد شهاب» و«نبيل العربى» و«يونان رزق» و«يوسف أبوالحجاج» وغيرهم من الكواكب اللامعة فى سماء «مصر» المنجبة وأبناء الكِنانة الولادة فى كل حين.
ومازلت أذكر للدكتور «مفيد» بعض المشاهد التى لن تغيب عن ذاكرتى أبدا، أتذكره وهو يودع ابنه الذى اختطفه الموت صبياً والفترة العصيبة التى مرت بذلك الصديق وقرينته بعد تلك المحنة القاسية، وأتذكره فى الجلسة الأخيرة للقمة العربية الطارئة «بالقاهرة» فى أغسطس 1990 وهو يرد بعنف شديد وجرأة غير مسبوقة على الرئيس الفلسطينى «ياسر عرفات» عندما تطاول الأخير على «مصر» وموقفها من الغزو العراقى للكويت وأتذكره رئيساً متميزًا «لجامعة القاهرة» يعيد إليها دورها الثقافى بعد طول غياب ويبدأ سلسلة من الأنشطة العامة التى أحدثت حراكاً فى المياه الراكدة.
وأتذكره أيضاً عندما شنت عليه الصحافة المصرية هجوماً عنيفاً وقاطعت أخباره بسبب «قانون الصحافة» ورأيه فيه، وأتذكر أيضا الهجوم الذى تعرض له عندما صدر قانون تنظيم أوضاع هيئات التدريس بالجامعات المصرية فيما يتصل بالأساتذة المتفرغين والحملة الضارية التى تعرض لها أيضاً، فهو أستاذ جامعى له مواقفه الواضحة ومعاركه الساخنة.
وقد اتسم دوره البرلمانى بالحيوية وسرعة الاستجابة للحقيقة منذ أن كان رئيساً للجنة الشؤون العربية والخارجية والأمن القومى فى «مجلس الشورى» حتى أصبح الوزير المختص بالشؤون البرلمانية والقانونية، وإذا كان بعض خصومه يعيبون عليه كما يعيبون على غيره من أبناء جيل الثورة المصرية تعاملهم مع النظام القائم فإنهم يقعون فى خطيئة كبرى لأننا كنا ولا نزال نعيش عصر23 يوليو مع بعض التحولات العصرية والتغيرات الشكلية، كما أن «د.مفيد شهاب» هو ابن بار لهذا الوطن طوال مراحل حياته وعبر مسيرته الأكاديمية والسياسية فى العقود الأخيرة.
..إنه «مفيد شهاب» الفقيه القانونى والفارس البرلمانى والمفاوض الصبور والأستاذ الجامعى المتألق الذى تلتقى لديه خبرة العهود المختلفة وروح «مصر» المتجددة وعقلها المستنير.
جريدة المصري اليوم
23 سبتمبر 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/195373