لقد أسرفنا كثيرًا فى الحديث عن الماضى حتى استغرقنا ذلك عن فهم الحاضر والتهيؤ للمستقبل، والآن يحلو لنا أحيانًا أن نبحر نحو المستقبل لنحلق فى أجواء ما هو قادم مستخدمين حق الخيال فى أدق صوره لعلنا نستطلع مستقبلًا نرجوه لأولادنا وأحفادنا وأجيال تليهم مازالت فى ضمير الغيب، ونحن إذ نقوم بهذه المحاولة لارتياد الغد واستشراف المستقبل فإنما نفعل ذلك نتيجة شعور دفين بالقلق ورغبة حقيقية فى الإصلاح وتطلع وطنى فى اتجاه الأفق البعيد، دعنا نتأمل النقاط التالية:
أولًا: إن استقراء التاريخ يشير بوضوح إلى أن الأمم العظيمة تستلهم الأفكار الكبرى التى تقودها نحو شاطئ الأمان إذ لم يكن «نهرو» عشوائيًا عندما فكر هو ورفاقه غداة الاستقلال فى مستقبل «الدولة الهندية» معتمدين على تصور شامل لما يريدونه لـ«الهند» عبر رحلة المستقبل فاستلهموا بخيالهم الوطنى ما يجب أن تكون عليه «الدولة الهندية» بعد نصف قرن ثم بعد قرن كامل فأنشأوا مجلسًا أعلى للتخطيط القومى التزمت حكومات «الهند» المتعاقبة بالخطوط العريضة لسياساته وأبرز أفكاره، ولا أظن أننا فى «مصر» قد عكفنا على شىء من ذلك أو استطعنا التوافق على نقطة البداية فنحن حتى الآن لم نستعد لمرحلة «التحليق» ولم نستكمل الاستعداد للحظة «الإقلاع» ولن تزدهر أمة إذا لم يكن النظام التعليمى فيها عصريًا يجمع بين العلم والتدريب عليه ويزرع مبادئ الجدية والالتزام لدى طلابه ويصنع جسورًا للتواصل بين الأجيال وهو أمر لم نتمكن من تحقيقه حتى الآن، إن حق الخيال هو واحد من أرقى الحقوق التى جعلها الله متاحة للعقل البشرى فى كل زمان ومكان.
ثانيًا: إن الذى يتأمل فى المشهد المصرى يدرك مباشرة أنه لا تنقصنا النوايا الطيبة ولا الرغبة الصادقة ولا الوطنية الخالصة ولكن الأمر الذى نفتقده هو ذلك الحشد من الأفكار المتجددة فى كافة القطاعات مع امتلاك رؤية بعيدة فى كل اتجاه، فالطريق إلى جهنم مفروش أحيانًا بالنوايا الحسنة والكلمات الطيبة ولكن مسئولية المستقبل المصرى تلزم الجميع بأن يعملوا بطريقة ممنهجة وأسلوب علمى يبدأ بحصر موارد الدولة ـــ الطبيعية والبشرية ـــ وتوظيف كل منها التوظيف الأمثل، وهنا أشير إلى أهمية الخبرة الأجنبية أحيانًا فذلك لا ينتقص من الجهد المبذول فى الداخل فــ«الأسبان» بارعون فى قطاع السياحة، و«الهولنديون» متفوقون فى الزراعة الحديثة وأساليب الرى بالتنقيط، وقس على ذلك دولًا أخرى تفوقت فى مجالات مختلفة ولا ينبغى أن نشعر بحساسية فى الحصول على خبراتها المتميزة وميزاتها النسبية.
ثالثًا: لقد استلهمت «مصر» من ماضيها العظيم ما يدفعها خطوات واسعة نحو الأمام، فــ«مصر» تملك ذاكرة قومية متعددة الأعمدة والألوان والمواقف لذلك فإن لديها مخزونًا من الخبرات والتجارب يجب أن تستدعيها القيادة الحاكمة لتستمد منها الرؤى والسياسات المطلوبة لصياغة المستقبل بعد تحسين الحاضر، إن الدولة المصرية لابد أن تمضى على رؤية عصرية تعطى للوطن ما يستحقه من مكانة بين أمم الأرض وشعوب الدنيا.
رابعًا: إننا فى عالم سقطت فيه الحواجز وتلاشت الأسوار وأصبحنا أمام انسياب واضح تنتقل من خلاله الأفكار المبتكرة والاكتشافات العلمية والإختراعات العملية لذلك فإن «مصر» يجب أن تستفيد من خبرات الآخرين الذين سبقوها على طريق التقدم، إننا بحاجة إلى ما يعطينا دفعة للقطاعات المختلفة للحاق بمجموعات اقتصادية جديدة ظهرت حديثًا يجب أن يكون لنا فيها وجود حتمى لدولة لديها كافة المقومات للانطلاق ولكنها تتعثر دائمًا لأسباب معقدة نتيجة التداخل بين التراث والحاضر، بين منظومة التقاليد الموروثة ومجموعة الأهداف المرجوة، إننا يجب أن نفتح الأبواب والنوافذ لتدخل منها التيارات العصرية من كل اتجاه دون مبالغة فى المخاوف أو اصطناع للمحاذير فلقد أصبح العالم «قرية كونية» وليس مجموعة من الجزر المنعزلة.
خامسًا: إن الاشتباك القائم بين الدين والسياسة والذى تمخض عنه ميلاد حركات «الإسلام السياسي» قد أصبح أمرًا يحتاج إلى حسم ومراجعة من جانب كافة الأطراف لأن جزءًا كبيرًا من مشكلات المنطقة قد نجم عن التداخل بين هذين العنصرين فى العقود الأخيرة وهو الذى أزكى صراعات كثيرة فى المنطقة وأعطى مبررًا للإرهاب الأسود لكى يستغل الدين فى غير ما جاء من أجله حتى أصبحنا أمام مشهد عبثى تختلط فيه القضايا والمواقف وتنجم عنه المشكلات المعقدة والأزمات الطارئة، دعونا نردد المقولة العظيمة ( دع ما لله لله ومالقيصر لقيصر ) خصوصًا وأن شخصية «مصر» وسطية بطبيعتها، معتدلة بفطرتها، ولقد تحمل المصريون قرونًا من القهر السياسي، وعقودًا من الضغط الاقتصادي، ولكنهم لم يتحملوا عامًا واحدًا من العبث الثقافى إذ أن هوية «مصر» هى الكيان والروح، هى الماضى والتراث، هى الحاضر والمستقبل.
سادسًا: إن الرؤية المجردة والموضوعية والنظرة المحايدة للواقع المصرى يجب ألا تستغرق بنا فى التشاؤم، فقد عبرت «مصر» مراحل أكثر صعوبة وأشد ضراوة، إن «مصر» عرفت الانكسار والانتصار، وذاقت مرارة الهزيمة وحلاوة النصر، لذلك فإننا لايجب أن نشعر بالانزعاج لما يحدث حولنا أحيانًا، ويجب أن ندرك أن الشعب المصرى له مزاجه الخاص ومعدنه الفريد فهو يتماسك أمام المحن ويصمد أمام الخطوب ويستدعى أنوار الفجر ليزيل الظلام، إننا نتحدث عن المستقبل بلغة الحاضر وتلك خطيئة أخرى فلكل مرحلة مناخها الفكرى وبيئتها السياسية وروحها الثقافية لذلك فإن الخيال الواعى هو ذلك الذى يرى ماهو قادم بمنظور العصر الذى أتى فيه، ولعل هذه النقطة تحديدًا تلامس قضية هامة فى تاريخنا الحديث وهى التى نطلق عليها مسألة «صراع الأجيال» فلن يتحقق المستقبل الواعد إلا بالمصالحة الطبيعية بين الأجيال المختلفة حتى يتحقق للجميع ما يتطلعون إليه فى مستقبل هذا البلد الواعد برغم كل الاستهداف له والتضييق عليه ومحاصرة انطلاقه دائمًا.
سابعًا: إننا يجب أن نشجع الدراسات المستقبلية، وأن نعتمد على ذخيرة كبيرة من المعارف والعلوم والدراسات والأبحاث التى تمس مظاهر حياتنا واضعين فى الاعتبار أنه لن يبنى «مصر» إلا المصريون، قد تساعد القروض الأجنبية أو المعونات العربية لبعض الوقت ولكنها ليست أبدًا الطريق نحو المستقبل، إن الأمم العظيمة شيدتها الآلام العظيمة وبنتها بالدم والعرق والدموع ونحن فى حاجة إلى مزيد من التماسك والإحساس بأن «مصر» التى بنت الماضى هى بالضرورة أم المستقبل.
هذه محاور سقناها فى محاولة للتحريض على التفكير وفتح آفاق جديدة أمام العقل المصرى الخلاق والروح المبدعة الكامنة فى تاريخه لكى نبدأ الانطلاق حتى ولو جاء متأخرًا!.
جريدة الاهرام
27 أكتوبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/449132.aspx