لا نستطيع أن ننكر أن دخول «روسيا الاتحادية» مباشرة وبشكل سافر فى العمليات العسكرية هو تحول نوعى فى السياسة الدولية والإقليمية وتعبير عن الرغبة الدائمة فى الوجود بالمنطقة، وإن كان البعض يعقد مقارنة غير دقيقة بين احتمالات المغامرة الروسية القادمة فى «سوريا» والمغامرة التاريخية لـ«الاتحاد السوفيتى» السابق فى «أفغانستان»، وإذ يشكك الأمريكيون وبعض القوى الغربية وعدد من الدول العربية فى صدق النيات الروسية ويصورون الموقف على أنه محاولة من «بوتين» لبناء مجده الشخصى لكن الأمر ــــ فى ظنى يتجاوز ذلك، إذ أن الصراع الحالى فى «الشرق الأوسط» يعكس المواجهة المحتملة فى نظر بعض المراقبين وخبراء العلاقات الدولية وإن اختلفنا معهم للأسباب الآتية:
أولًا: إن «روسيا الاتحادية» هى أكثر الدول الأوروبية والآسيوية احتكاكًا بما يسمى «الظاهرة الإرهابية» خصوصًا بعد أن جرى تصنيف حركات الاستقلال الوطنى والكفاح المسلح على أنها نوع من «الإرهاب» والتى برعت فى ذلك هى دولة «إسرائيل» ثم نقل عنها غيرها، ولقد عانى «الاتحاد السوفيتى السابق» مما جرى له فى «أفغانستان» منذ عدة عقود وهاهو اليوم يعيد ما فعله ولكن بـ«سيناريو» مختلف وإن كان الهدف واحدًا وهو تأكيد سيادة «روسيا الاتحادية» وسيطرتها على مجال حيوى يمتد من «البلقان» إلى «الشرق الأوسط» ثم إلى «شرق آسيا»، إنه صراع الكبار وقديمًا قال الحكماء (إذا تصارعت الفيلة تكسرت الحشائش)، فالدول الصغيرة هى دافعة الضريبة فى كل ما جرى وما يجري، كما أن مسرح العمليات هذه المرة قد جاء فى منطقة شديدة الحساسية تقع على ساحل «البحر الأبيض» ذى المياه الدافئة و«المشرق العربى» ذى الأهمية الاستراتيجية، ولايمكن على الإطلاق تبرئة القوى الكبرى من أهدافها الاستراتيجية طويلة المدى، فـ«الروس» لا يفعلون ما يقومون به من أجل الاحتفاظ بـ«سوريا» الموحدة ولكن للإبقاء على نظم سياسية تكون هى أو امتداداتها حليفًا جديدًا لـ«موسكو»، وينسحب ذات الأمر على «الولايات المتحدة الأمريكية» بالطبع.
ثانيًا: إن صراع نظام «فلاديمير بوتين» مع مسلمى «الشيشان» وحركة المقاومة التى واجهها بضراوة واستخدم ضدها سلاح «البراميل المتفجرة» والتى نصح حلفاءه باستخدامها بعد ذلك فى «سوريا» وهى ذات قوة تدميرية عشوائية بأرخص التكاليف، فقد تأكدت «روسيا» أن نسبة من عناصر حركة «داعش» الإرهابية المتطرفة هم من قيادات «المقاومة الشيشانية» وبالتالى فإن «الروس» يصطادون طيورًا ثلاثة بحجر واحد، أولًا: هم يواجهون «الإرهاب» أمام المجتمع الدولى كله، وثانيًا: هم يحافظون على الحليف فى «دمشق» وثالثًا: هم يتعقبون قيادات حركة «الشيشان» فى ساحات المواجهة شرقى «البحر المتوسط» وذلك كله فضلًا عن الأهداف البعيدة المدى التى يصعب تبرئة القوى الكبرى منها، ولقد استفادت «موسكو» من أخطاء «واشنطن» وترددها وازدواج المعايير لديها والكيل بمكيالين فى منطقة «الشرق الأوسط»، إذ أن «واشنطن» ليست جادة فى مواجهة التطرف الدينى فى المنطقة ولكنها تتصرف بطريقة انتقائية تحكمية قد تؤدى إلى دعم «الإرهاب» وليس إلى تصفيته.
ثالثًا: تواجه «مصر» بجسارة وشجاعة الجماعات الإرهابية فى «سيناء» ويقوم جيشها بعمل بطولى ضد امتدادات «الإرهاب «الداعشي» فى المنطقة، والبعض يكتفى بأن يكون مراقبًا، لذلك لم نندهش عندما أوضحت بعض المصادر أن تنسيقًا قد تم بين «بوتين» و«نيتانياهو» فى زيارة الأخير لـ«موسكو» ووضع تصور عام لترتيبات مستقبل المنطقة، إذ لا شك أن «الإسرائيليين» على دراية يومية دقيقة بمواعيد الضربات الروسية وأهدافها المحددة، وهنا يجب أن نتذكر دائمًا أن السياسة تحكمها المصالح ولا تحكمها المبادئ التى يجرى استخدامها فقط كقشرة خارجية أمام الأمم والشعوب،
رابعًا: إن المشهد المرتبك فى المنطقة يدعونا إلى تأمل أطرافه ف«الدولة الإيرانية» حليفة نظام «الأسد» تريد الاحتفاظ بولاء سياسى وطائفى لها فى «سوريا المستقبل»، و«تركيا» تتطلع إلى استقطاع أجزاء من «شمال سوريا» كمنطقة عازلة فى مواجهة التمرد الكردى الدائم، وتبقى «الدول العربية» خصوصًا «دول الخليج» بقيادة «السعودية» التى ترى ضرورة التخلص من نظام «الأسد» كشرط لتسوية الأوضاع فى «سوريا» ومن بينهم دول دعمت ـــ بحسن نية أو بسوء نية ـــ عناصر التطرف الإرهابى التى اختلطت بصفوف المعارضة السورية فى السنوات الأخيرة، كما أن تنظيم «داعش» لم يولد من فراغ، فإذا كان قد تكون من بقايا جيش «صدام العراقى» وكوادر «المقاومة الشيشانية» إلا أن عناصره قد تلقوا دعمًا ماديًا عربيًا ودعمًا لوجستيًا تركيًا (وعلى نفسها جنت براقش)، فالحصاد مر، والعواقب وخيمة على الجميع!
خامسًا: إن احتمالات المواجهة العالمية بين القوى الكبرى التى ارتبطت بفترة «الحرب الباردة» ليست واردة حاليًا، فالدنيا قد تغيرت والمخاطر ازدادت، كما أنه لا يخالجنى شك فى أن هناك تنسيقًا صامتًا بل وعلنيًا بين «موسكو» و«واشنطن» فيما يجرى على أرض المنطقة، ونحن فى النهاية دافعو «الفاتورة» عدة مرات وليس مرة واحدة، فالضحايا البشرية منا، والأرض المدمرة أرضنا، والكلفة المالية أيضًا نتحملها، فنحن الضحايا فى كل الأحوال وينتهى كل يوم دائمًا بالعرب وهم كـ»الأيتام على مائدة اللئام»، إن حلفاء «أمريكا» وأصدقاء «روسيا» وكلاهما من المنطقة يتصورون أحيانًا أن ما يجرى فى كواليس الدبلوماسية والإعلانات الرسمية هو تفكير صحيح وكلام أمين، فالسياسة لا تنطوى على أزمة مصالح فقط، ولكنها تنطوى بالدرجة الأولى على أزمة أخلاق.
هذا طواف سريع بمكونات المشهد العام بعد التدخل الروسى والتردد الأمريكى فى منطقة تهمنا مباشرة.
جريدة الاهرام
10 نوفمبر 2015
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/452907.aspx