هو أستاذٌ جامعى وطبيب لامع ووزيرٌ أسبق للصحة وصهرٌ لرئيس وزراء مصر قبل الثورة «أحمد نجيب الهلالى باشا»، ينتمى إلى محافظة «أسيوط»، كان رائد علاج الأورام بالأشعة كما كان سابقًا لعصره علميًا وسياسيًا وثقافيًا، ربطتنى به علاقة وثيقة لسنواتٍ طويلة فاستمعت منه إلى ذكرياته عن عصر ما قبل الثورة وما بعدها، واطلعت على كتاباته الرصينة وأبحاثه العميقة فى مجال الخدمات خصوصًا «التعليم»، حيث كانت الدراسة التى أشرف عليها فى مجلس الشورى نمطًا متميزًا فى البحث العلمى الذى نسعى إليه، وإذ هو ابن عائلةٍ عريقة من «مصر العليا» فإن فهمه لصعيد مصر وأسباب التطرف الدينى والعنف السياسى كانت كلها قضايا حاضرة فى ذهنه واضحة الرؤية أمامه، وهو الموسوعى الذى كان يتذوق «الأدب» و«الشعر» و«الفن» مثلما هو مفتونٌ بالعلوم الطبية وتطوراتها الكاسحة.
ومن نوادره التى كان يذكرها لى أنه سافر كوزير للصحة فى رحلة عملٍ بالخارج وعند عودته إلى مطار القاهرة لم يجد كبار المسؤولين بالوزارة فى استقباله كالمعتاد وقبل أن يبدى أى ملاحظة كان سكرتيره الخاص يهمس فى أذنه بأنه لم يعد وزيرًا للصحة وأن تغييرًا وزاريًا قد أطاح به دون أن يدرى! وكنت أسرِّى عنه دائمًا عندما يذكر هذه الواقعة بأن معظم الوزراء فى بلادنا لا يعرفون كيف جاءوا ولماذا خرجوا فذلك لغزٌ سياسى تحتفظ به الدولة دائمًا منذ خروج «د. محمد حلمى مراد» ومن سبقوه إلى خروج كل من لحقوه بعد ذلك.
ولقد كان أهم ما يميز «د. محمود محفوظ» اهتمامه الشديد بقضايا الوطن وحرصه الواضح على متابعة شؤونه والمشاركة فى تحمِّل همومه، فقد كان مفكرًا بالمعنى الدقيق للكلمة، إنه رجلٌ مشعٌ متوهج تنساب منه الأفكار فى سلاسة وعمق، ظل حتى سنوات عمره الأخيرة وهو يتوكأ على عصاه يقظًا ومتألقًا دون أن يحد ذلك من نشاطه أو ينال من عزيمته، فلقد كان رحمه الله مثابرًا دؤوبًا يسعى لتحقيق أهدافٍ آمن بها وأفكارٍ دافع عنها، وكان مقتنعًا بأن الأسلوب العلمى هو الطريق الوحيد للوصول إلى غدٍ أفضل، ورغم انتمائه إلى جيل يكاد ينتهى دوره إلا أن روح الشباب كانت تغمره وتدفع به نحو استشراف المستقبل والبحث فى تفاصيله القادمة كما كانت له رؤية واضحة لدور البحث العلمى فى خدمة الحياة وإضاءة الطريق نحو المستقبل، كما كان يؤمن عن حق بأن التعليم هو مفتاح التقدم وأنه الحل الوحيد لمعظم مشكلات الوطن المصرى، بدءًا من الفقر، مرورًا بالعنف، وصولاً إلى نقص الخدمات، وكثيرًا ما كنت أتحدث معه عن أصوله العائلية والتركيبة الحالية للعصبيات المؤثرة فى صعيد مصر وأحكى له عن تجربتى مع ابن شقيقته الراحل الدكتور «يحيى أيوب عامر» طبيب الأسنان الذى كان يُعالَج فى «لندن» عندما كنت أنا قنصلاً صغيرًا فى السفارة هناك، وكيف أن ذلك الطبيب الواعد النابه قد تحدى «السرطان» وعاش سنواتٍ أطول مما توقع له أكثر الأطباء تفاؤلاً لأن إرادة الحياة لديه كانت قوية ومستمدة من جذوره الصعيدية الصلبة، كما كان يحكى لى «د.محمود محفوظ» عن دوره وهو شاب صغير فى دهاليز السياسة المصرية وكواليس الأحزاب بحكم مصاحبته «الهلالى باشا» الذى كان وزيرًا للمعارف ثم رئيسًا للوزراء رفع شعار «التطهير قبل التحرير».
.. سوف يظل الدكتور «محمود محفوظ» فى ذاكرتى نموذجًا راقيًا للعالم المتواضع والمصرى الوطنى الذى يعرف إلى أين يتجه، وعندما مضى إلى ربه منذ سنواتٍ قليلة شعرت أن الوطن قد فقد واحدًا من جيل العمالقة، وأننى شخصيًا قد فقدت صديقًا عزيزًا.
جريدة المصري اليوم
18 مارس 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/202045