كان مستشارًا مرموقًا فى مجلس الدولة، ولكن الأهم من ذلك أنه كان مثقفًا رفيع القدر، معنيًا بتاريخ الفكر السياسى والاجتماعى، مهتمًا بقضايا الوحدة الوطنية، ولقد سعدت بكتابٍ مشتركٍ معه ومع الأستاذ الكبير «طارق البشرى» بتقديمٍ وافٍ من الأستاذ الدكتور «بطرس بطرس غالى» عام 1981 تحت عنوان (وطنٌ واحد وشعبٌ واحد)، ومازلت أتذكر لقاءاتى الحميمة بذلك المستشار الراحل، والأحاديث العميقة التى كان يطرحها فى المناسبات المختلفة، وأتذكر أيضاً أنه أهدى أحد كتبه إلى والده الراحل وخاطبه قائلاً: (إلى أبى الذى كان يكتسب من عمل يده كما كان شماساً فى الكنيسة القبطية)، ولقد كان الرجل نموذجًا للمصرى المؤمن بوطنه الذى يسعى للإصلاح فى كل اتجاه ويكره المزايدة فى أى موضوع، إنه ذلك الرجل الصابر المحب لكل الناس، العاشق لتراب مصر،
أكتب عنه اليوم لأننى كلما تذكرته بعد رحيله تذكرت قطعة غالية من هذا الوطن تجسد نموذج القبطى الذى لا تحول بينه وبين رؤيته الصائبة ضبابية تعصب أو عقدة تعامل، فهو لم يعرف «اللوعة الطائفية»، ولم يعش بشعور من ينتمى إلى أقلية عددية، ولكنه ظل دائمًا هو رجل القضاء المتواضع بطبيعته، الطيب بفطرته، النقى فى سريرته، وكلما هاتفنى أحد أبنائه الذى يعمل بإحدى الدول العربية فى مناسبة ما، شعرت بأن الرجل لم يمت وأن ذكراه الحية تجعله متواصلاً فى روح أبنائه، ولقد حكى لى صديقنا المشترك المستشار «د. إسكندر غطاس» أنه تلقى اتصالاً هاتفيًا ذات يوم من المستشار «د. وليم قلادة» يقول له إن لديه مشكلة حيث كان يجرى فحوصاً فى المستشفى «الفرنساوى» بقصر العينى، وأنهم أبلغوه أنه يعانى من حالة «لوكيميا» متقدمة (سرطان الدم فى آخر مراحله) وكانت المشكلة لديه ليست فى ذلك النبأ الصاعق، ولكن لأنهم يطلبون منه دخول المستشفى فى محاولة أخيرة للعلاج بينما هو مرتبطٌ بمحاضرة عن «المواطنة» مع الأستاذة الدكتورة «نازلى معوض»، وكيل كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حينذاك، وكأن الذى يهمه هو احترامه لارتباطه بتلك المناسبة وليس خبر المرض اللعين الذى سمعه لأول مرة، ولقد حدث أن رحل ذلك الرجل العظيم بعدها بأسبوعين فقط!
إنه طرازٌ نادر تفتقده «مصر» الآن، حيث غابت السماحة وانزوت القيم وشاع التعصب واستحكمت الفتنة، ولست أشك فى أن الرجل يشعر فى قبره بأن جهوده من أجل الوحدة الوطنية وقضية المواطنة لم تؤتِ ثمارها، إن «د. وليم سليمان قلادة»، مستشار القانون، الذى كان يحمل درجة الدكتوراه فى القانون المدنى، وينتمى إلى مجلس «السنهورى باشا» أى «مجلس الدولة»
هو قيمة حقيقية نفتقدها الآن ونشعر بالفراغ الذى تركه ذلك النمط من المصريين الذين ارتبطوا بزمنٍ جميل لم نكن نعرف فيه المسلم من المسيحى إلا إذا عبَّر أحدهم عن ذلك، فنحن جميعًا ننتمى لـ«مصر» حيث «الكل فى واحد»، وأنا أنبِّه هنا، ونحن نتذكر ذلك المفكر صاحب البصمة القوية فى قضية «المواطنة»،
إلى أن كل محاولات النيل من الوحدة الوطنية المصرية وزرع «الفتنة الطائفية» هى محاولاتٌ خبيثة ودخيلة، كما أقرر أن كل مسلمٍ يهاجم «العقيدة المسيحية» ليس مسلمًا حقيقيًا، وأن كل مسيحى يتطاول على «الإسلام الحنيف» هو خارجٌ عن إطار مسيحيته الحقيقية..
يها السادة، إن «الأديان لله والوطن للجميع» شعارٌ نتذكره الآن ونحن نتحدث عن رجلٍ من «مصر» غلبت وطنيته انتماءاته الأخرى، ومازالت كتبه الباقية التى كان يزين غلافها بعلامة «الهلال والصليب المتعانقين» رمزًا لروح الكنانة وشمسها التى لا تغيب أبدًا، ولقد كانت علاقة الدكتور «قلادة» بكنيسته علاقة طيبة مثلما هى صداقته برجال الأزهر وعلماء الدين الإسلامى، وتكفى صلته بالمفكر المصرى اللامع «طارق البشرى» برهانًا ودليلاً.
وأنا أقترح هنا على السيد محافظ القاهرة إطلاق اسم ذلك المصرى الرائع على أحد الشوارع المحيطة بمنزله فى مصر الجديدة دون أن يكون فى ذلك إلغاء لاسم من يستحق، فقد كان الرجل دائماً لا يحب أن ينال ما بحوزة غيره، زاهدًا فى محراب المعرفة، عاشقاً لأم الأوطان.
.. رحم الله رجل القضاء الذى عرف طريقه إلى ملف «الوحدة الوطنية» وتجوَّل طويلاً بين صفحات تاريخ «مصر» الحديث.
جريدة المصري اليوم
14 يناير 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/190283