إنه واحد من آخر جيل عمالقة القضاء المصرى وشيوخه العظام، كان رئيساً لمحكمة النقض يقف على قمة الجهاز القضائى فى كبرياءٍ وحكمة، ولقد اقتربت منه فى عدد من المواقف فأدركت أن القضاء المصرى له تقاليده الراسخة وقيمه الرفيعة وتاريخه المشرف، فقد تملك المستشار «وجدى عبدالصمد» ناصية اللغة الرفيعة والقدرة على التعبير بمصطلحات القانون على نحو رائع، وأنا شخصياً عندما أجد رجل دين أو رجل قضاء يخطئ فى النحو أو يتعثر فى اللغة فإننى أنصرف عنه مهما كانت مكانته.
أما «وجدى عبدالصمد» فقد كان نموذجاً للبلاغة، ولقد حضرت احتفال «مجلس القضاء» باستقبال رئيس الدولة فى إحدى سنوات الثمانينيات من القرن الماضى، وقد بهرنى الرجل بأسلوبه وهو يقف على المنصة العالية مخاطباً ولى الأمر بقوله: «سيادة الرئيس، إننى أقول لك ما قلته لسلفك ذات يوم....» ثم يستطرد الرجل فى الدفاع عن الحريات وإدانة القوانين المقيدة لها، لقد تذكرت الرجل، وما أكثر ما يمر بخاطرى، عندما تابعت عبر وسائل الإعلام احتفال «المجلس الأعلى للقضاء» بمناسبة مرور ربع قرنٍ على عودته، وأسفت أنهم لم يتذكروا المستشار «وجدى عبدالصمد» كما ينبغى، على الرغم من أنه هو صاحب الدعوة لعودة هذا المجلس من خلال الجمعية العمومية لنادى القضاة قبل ذلك بسنوات، ولعل القضاة يتذكرون أيضاً أنه هو الذى قاد حملة مد سن الخدمة لرجال القضاء فوق الستين وهو يعلم أنه لن يستفيد شخصياً من ذلك وقد كان، وتلك هى موضوعية الرجل وقدرته على الانحياز للمصلحة العامة دون التوقف عند المصلحة الشخصية وحدها، إنه أيضاً ذلك القاضى الشامخ الذى عرض عليه رئيس الدولة، الذى يعرف قدره ويحترم دوره، العمل مستشاراً لحاكم إحدى دول الخليج العربية، ولكن الرجل اعتذر شاكراً وهو يردد: «إن من ترأس محكمة النقض المصرية لا يرضيه بعدها منصب آخر مهما كان وضعه الأدبى وعائده المادى»، إننى أتذكر واحداً من عمالقة القضاء المصرى وهو فى محنة مرضه بعد حياة حافلة وخدمة ممتازة، واسمه يذكرنى دائماً بما عرفه «القضاء المصرى» من نماذج لشخصيات رفيعة اتسمت بالنزاهة والسمو وحملت على كتفيها دائمًا كبرياء العدالة، وقد سمعت أن «عبدالفتاح الطويل باشا» كان قد ترك «وزارة العدل» وذهب للمرافعة فى إحدى القضايا بمحكمة «دمنهور» وعندما رآه القاضى الشاب قدم دوره فى المرافعة استثناءً واحتراماً لمكانته وتاريخه، وعندما عاد «عبدالفتاح باشا» من مهمته اتصل بزميله وزير العدل الجديد وطلب منه لفت نظر القاضى لأنه جامله بغير حق وخرج على تقاليد القضاء الراسخة!
وقد حكى لى الصديق المستشار «محمد دكرورى» أنه كان معاراً إلى «ليبيا» منذ عشرات السنين وكان يأتيه زميله القاضى المصرى المعار أيضاً لنفس الدولة لزيارته كل أسبوع رغم أن المسافة بينهما تصل إلى مئات الكيلومترات، فسأله المستشار «دكرورى»: إننى سعيد بالتأكيد لاستقبالك كل أسبوع، ولكننى لا أريد أن أشق عليك وأريد أن أعرف السبب فى تحملك هذه المشقة أسبوعياً؟»
فقال له زميله الضيف: «إننى أزورك كل يوم جمعة لكى أتناول معك وجبة مناسبة فيها بعض اللحم الذى لا أتذوقه فى مقر عملى فى تلك المدينة الليبية الصغيرة التى يوجد فيها محل (جزارة) واحد ولصاحبه قضية منظورة أمامنا وأخشى إن اشتريت منه أن تكون هناك شبهة ولو بعيدة تمس النزاهة التى نتحلى بها نحن قضاة مصر»
ولايزال كثير من المصريين المخضرمين يتذكرون عندما امتدح أحد كبار المسؤولين حكماً قضائياً فثارت ثائرة القضاة ورفضوا ذلك التعليق، لأن من يملك حق المدح قد يملك بالضرورة حق القدح، وكلاهما أمران مرفوضان فى أى أمر من أمور القضاء التى تتسم بالحياد والتجرد والموضوعية، فالعدالة عمياء لذلك رمزوا لها بسيدة معصوبة العينين.
.. تلك هى بعض تقاليد قضائنا العظيم، وشىءٌ من تراثه القانونى والأخلاقى أتذكرها اليوم وأنا أكتب عن نموذج مضىء وشخصية مشرقة فى سجل «محكمة النقض» المصرية منذ أيام «عبدالعزيز باشا فهمى» حتى اليوم، فتحية للمستشار «وجدى عبدالصمد» الذى لن أختتم ما أكتب عنه إلا بالإشارة إلى مشهد لا أنساه تعلق بأزمة بروتوكولية عابرة عندما كان يجب أن يجلس بعد رئيس الوزراء ورئيسى مجلسى الشعب والشورى للمساواة بين رموز السلطات الثلاث فى الدولة، أو هكذا كان يرى البعض، وعندما لم يتحقق هذا المطلب كرر الرجل المقولة الشهيرة: «أينما أجلس تبدأ الأقدمية»!..
شفاه الله وأمد فى عمره خصوصاً أننى قد علمت أن الدولة قد توقفت عن دفع مصروفات علاجه داخل الوطن منذ أن ترك الوزير الراحل «فاروق سيف النصر» مقعد الوزارة. إن «وجدى عبدالصمد» نموذج وطنى ورمز قضائى تعتز به الأجيال المقبلة.
جريدة المصري اليوم
7 يناير 2010
https://www.almasryalyoum.com/news/details/221484