هو ذلك المفكر الإسلامى المرموق الذى قطع رحلة طويلة عبر آفاق علوم الإسلام وفروعها المختلفة، واستطاع باجتهاده أن يصل إلى تصور شامل للنظرية الإسلامية، فلسفة وفكراً، من منظور يسارى ورؤية عصرية، فجاء مختلفاً عن سابقيه متميزاً عن غيره، والذين يطالعون ما كتبه الدكتور «محمد عمارة» سوف يكتشفون أن منهجه فى البحث يختلف عن أسلافه ولكنه لا يخرج عن حدود العقيدة ولا يتجاوز إطارها الروحى الأصيل، ولقد أثار الرجل اهتمامى منذ سنوات فتابعته بتقدير مستمر إلى أن جمعت بيننا ظروف مختلفة جعلتنى أكثر قرباً منه وفهماً له، ولن أنسى ذات مساء عندما دعانى صالون «الأوبرا» المصرية فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى لإلقاء محاضرة حول موضوع (تاريخ الأفكار وتأثيره فى تطور البشرية) ولقد احتشد الحضور يومها ومعظمهم من صفوة المثقفين وكان من حظى أن كان من بين الحاضرين ذلك المفكر الإسلامى الضخم، وأتذكر ذلك الحوار بعد المحاضرة وكيف أننى استصوبت رأيه وصححت به إحدى أفكار المحاضرة وقد كنت أقول ليلتها إن مساحة المعلوم فى حياتنا الفكرية تزداد فتنحسر بها مساحة المجهول تلقائياً طبقاً لذلك، ولكن الدكتور «محمد عمارة» اختلف معى، وكان على صواب كما ذكرت، حيث شرح أن زيادة مساحة المعلوم تؤدى بالضرورة إلى زيادة مساحة المجهول لأننا كلما عرفنا أكثر اكتشفنا جهلنا أيضاً، إذ إن زيادة المعلومات عن الكون وأبعاده تفتح آفاقاً جديدة لمعارف أخرى وربما لعلوم مختلفة لم يكن لها وجود من قبل، وأنا أزعم أن نظرة ذلك المفكر الكبير تنطوى على عمق فلسفى وفهم شامل لنظريات التطور المختلفة ثم جمعنى به بعد ذلك بسنوات برنامج تليفزيونى تحدثنا فيه معاً، وكان المطلوب أن يكون هناك حوار بين مفكر إسلامى وآخر قومى، وأشهد أن حديثنا فى تلك الليلة كان راقياً وعميقاً ومتفتحاً باستثناء بعض ملاحظاته السلبية على بعض أنشطة الكنيسة القبطية وآبائها الكبار فإننى لم أختلف معه فى شىء آخر، وكلما أتيح لى أن أستمع إليه أو أتحدث معه أشعر أننى أمام نمط يستحق التقدير ونموذج يثير الإعجاب، وأنا أظن أن رجالاً من أمثال «أحمد كمال أبوالمجد» و«محمد سليم العوا» و«محمد عمارة» يمثلون منهجاً إسلامياً تقدمياً رغم اختلاف مدارسهم الفكرية ومنطلقاتهم الأكاديمية، ويشكلون فى النهاية كتيبة للموضوعية والاعتدال فى ظل ركام التشدد والتعصب بل والتطرف والانغلاق، فهم يتحدثون لغة العصر ويتعاملون مع مفرداته فى شجاعة ووضوح، ويتميز د. «محمد عمارة» بينهم بأنه أكثر جرأة فى الرأى وشدة فى اقتحام القضايا الأكثر حساسية مع تحليل خاص للصحوة الدينية وتاريخ حركات الإصلاح الحديثة، خصوصاً عندما يثور الحديث حول مرحلة التجديد التى قادها الإمام «محمد عبده» تلميذ «الأفغانى» ورفيق مسيرته، ولسوف أظل أؤكد دائما أن الإسلام المستنير الذى يقدم صحيح «الشريعة» واعتدال «الفقه» هو الذى يحسم الصراع بين الإسلام وأعدائه وكل القوى الفكرية المعادية له والمتربصة به، وعندما أتحدث عن الدكتور «محمد عمارة» فإننى أدعو إلى دعم كل محاولة جادة لتنقية الدعوة الإسلامية من الشوائب التى لحقت به وإعمال «فقه الأولويات» حتى نضع الإسلام الحنيف فى صورته الحقيقية، ديناً للتسامح واحترام الآخر والتواصل مع الغير، والأمل كبير فى «الأزهر الشريف» باعتباره أكبر مركز إسلامى فى العالم المعاصر وأكثرها أهمية وعراقة فى أن يقود رجاله ومعهم أساتذة «دار العلوم» موجة من تجديد الفكر وتحديث الدعوة مع الالتزام بأصول «الشريعة» وصحيح «الحديث»، وربط الرؤية الإسلامية المتفتحة بقضايا العصر وظواهره ومشكلات المجتمع وشواغله، وسيبقى الدكتور «محمد عمارة» وصحبه رواداً نحتفى بهم ونأمل منهم ونتطلع إليهم وندعو لهم دائماً بمواصلة العطاء ورصانة الأداء ودوام البصيرة.
جريدة المصري اليوم
9 ديسمبر 2009
https://www.almasryalyoum.com/news/details/212133