إنه وزير الثقافة ثم وزير الخارجية فى المملكة المغربية، وهو مثقف عربى كبير عمل سفيرًا لبلاده فى «واشنطن»، وأنشأ واحدا من أشهر المنتديات الثقافية فى الوطن العربى والذى يقيم ندوته السنوية فى مدينة «أصيلة» شمال المغرب، وتربطنى بهذه الشخصية المغربية المرموقة صلات طويلة وود متبادل وحوار ثقافى متصل فى أغلب الأحيان، ولقد دعانى لكى أكون متحدثًا فى «مهرجان أصيلة» لسنواتٍ خمس متتالية ولما لم أتمكن من تلبية الدعوة طوال تلك المدة صرف هو النظر عن ذلك مكتفيًا بصداقتنا الطيبة، ويحرص صديقه القريب منه وزير خارجية مصر السابق «أحمد ماهر» على حضور مهرجان «أصيلة» فى أغسطس من كل عام، والتحدث فيه والحوار مع شخصيات عربية وأجنبية تسعى إلى تلك المناسبة السنوية من أجل العصف الذهنى وتبادل الآراء وإجلاء الحقائق، كما يرتبط ذلك المثقف المغربى الكبير بعلاقة ممتدة مع السيد «عمرو موسى»، أمين عام جامعة الدول العربية، وما أكثر ما جمعتنا أمسيات فى العواصم العربية المختلفة عندما كان «محمد بن عيسى» وزيرًا لخارجية بلاده و«عمرو موسى» وزيراً لخارجية مصر وأنا مساعده للشؤون العربية والشرق الأوسط ومندوب بلادى لدى جامعة الدول العربية، وكان النقاش يحتدم دائمًا حول قضايانا القومية ومشكلاتنا الإقليمية، ولفت نظرى فى تلك اللقاءات أن الوزير «محمد بن عيسى» يعرف عن الشأن المصرى مثلما يعرف المصريون، لأنه عاش فترة من حياته الدراسية فى «مصر»، ولقد حكى لنا قصة أول لقاء له مع الملك الراحل «الحسن الثانى»، وكيف استقدمه ذلك الملك ذو الهالة الكبيرة والعمق السياسى المشهود له عندما دعا «بن عيسى» كشابٍ مغربى ثائر ليستمع إليه ويتحاور معه، ثم عهد إليه بحقيبة الثقافة تقديرًا له رغم أنه ذهب إلى لقائه بملابس صيفية دون رباط عنق تعبيرًا عن شبابه وبساطته وثوريته!
ومازلت أتذكر جلستى إلى جانب ذلك الصديق العزيز عندما كان وزيرًا للثقافة المغربية وكنت عضوًا فى وفد رئاسى يزور العاهل المغربى ويومها لاحظت أنه مقلٌ فى طعامه حريصٌ فى شرابه فسألته عن السبب فقال إنه زار طبيبه فى «باريس» الذى حذَره من الدهون والنشويات والسكريات والكحوليات والتدخين! وأضاف أنه سأل طبيبه ساخرًا إذا فعلت ذلك فبأى مرضٍ سوف أموت إذًا؟ فرد عليه الطبيب الفرنسى بسخرية أكثر قائلاً: تموت من النكد بالطبع!
ولقد كان وزيرًا لامعًا للخارجية ومحدثًا لبقًا فى مختلف المنتديات والساحات، كما أن إجادته للغات العربية والفرنسية والإنجليزية بالإضافة إلى لغات أخرى جعلته سهل التواصل مع القوى السياسية والدوائر الدبلوماسية فى أنحاء العالم، وهو قريب فى فكره من الغرب عمومًا كما أن حياته فى الولايات المتحدة الأمريكية جعلته أكثر انفتاحًا عليها وتفهمًا لبعض سياساتها. وذات يومٍ كنت بالمغرب متحدثًا فى الذكرى الأولى لرحيل الملك «الحسن الثانى» بدعوة من مؤسسة «رباط الفتح» هناك، وكانت فرصة لى كى ألتقى بعدد من المثقفين المغاربة فى ندوة دعا إليها سفيرنا آنذاك الأستاذ «أحمد فتح الله»، وقد تعرفت بعدد من الأصدقاء المغاربة من بينهم المستشار الثقافى للعاهل المغربى حينذاك «د. عباس جيرار» وغيره من الصفوة المغربية فى الفكر والسياسة والعلم واصطحبنا السفير وزوجته أنا وزوجتى فى جولة بين المدن المغربية، التى أحب طابعها المعمارى كثيرًا، إلى أن وصلنا إلى مدينة «أصيلة» قرب «طنجة» وهالنى جمالها وإطلالة التاريخ منها وشوارعها الضيقة التى تذكرنا بتراث الماضى وعراقته، وعندما عرف الوزير «محمد بن عيسى» بوجودنا فى «أصيلة» دعانا إلى داره حيث قضينا وقتًا ممتعًا يتخلله حديثه الجذاب وذكرياته الجميلة وأسلوبه الرائع فى السرد والحكى والملاحظة، يومها اقتربنا من مشارف «الأطلسى» وأدركنا أن المغرب الشقيق له خصوصيته العربية والإسلامية بل والبربرية فضلاً عن مكانته الأفريقية وإطلالته على البحر المتوسط والمحيط الأطلسى معًا، كما أن مدنه تتميز بالطابع المختلف فـ«الدار البيضاء» تختلف عن «مراكش» و«الرباط» تختلف عن «فاس» و«طنجة» لا تشبه «مكناس»، فالتعددية العمرانية واحدة من خصائص «المغرب» التى تعطيه مذاقًا ثقافيا وسياحيا خاصًا، أما عن الطعام المغربى فحدث ولا حرج فلم أشهد فى حياتى ما رأيته فى الموائد الملكية المغربية حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على «معدة» بشر!
وسوف يبقى الصديق «محمد بن عيسى» باتصالاته الهاتفية بين الحين والآخر مصدر اعتزازٍ وسعادة لى، وكلما جاء إلى «القاهرة» سعيت إليه فى دار سكن السفير المغربى مدعوًا على ضفاف النيل متحملاً عناء المصعد الصغير الذى يأخذ الأدوار العشرة فى عدة دقائق! ومن الغريب أننى علمت أن عددًا من الملوك والرؤساء العرب صعدوًا به دون ضجر فتوقفت حينئذٍ عن الشكوى!..
تحية للمثقف العربى الكبير ابن المغرب الشقيق الذى يمثل علامة مضيئة للعلاقات الوثيقة التى تربط بين بلدينا على المستويات العربية والأفريقية والإسلامية والبحرمتوسطية.
جريدة المصري اليوم
18 نوفمبر 2009
https://www.almasryalyoum.com/news/details/203059