العراق قطر عربى فى عمومه، ويضم من الأعراق والنحل والملل ما يعطيه فرادة وتنوعًا عن سواه، فالحضارة العربية الإسلامية سكنت العراق منذ يومها الأول بوصول العباسيين إلى سدة الحكم، وما عرفنا مفكرًا أو عالمًا أو أديبًا أو فنانًا مر بالمنطقة إلا وعبر على العراق، فيها بدأت المدرسة المستنصرية، وفى قصورها تألق الخلفاء، وعلى أرضها ازدهرت دولة البرامكة حتى صدق عليهم القول الحكيم (ما من دار ملأت حبرة إلا وملأت عبرة)، رحم الله والدى الذى كان يقول لي: يا بنى إن (زهزهت) لك فابدأ الخوف منها! ولذلك تعلمت ألا أفرح كثيرًا وأن أمضى فى حياتى وفقًا للسيناريو الأصعب ولا أقول الأسوأ، وها هو العراق الذى أعطاه الله المياه والنفط معًا والأرض الخصبة، فكلمة العراق فى حد ذاتها تعنى (أرض السواد)، لقد كانت الطبيعة سخية على بلاد الرافدين ومعطاءة لبلاد النهرين، ففيها تراث حضارى شامخ كالحضارات التى سبقت الإسلام والقوميات التى تعايشت معه حتى اعتبرناها بحق البوابة الشرقية للوطن العربى واعتبرنا الجيش العراقى حارسًا لحدود الأمة إلى أن ابتلى الله ذلك القطر الشقيق بسلسلة من الأزمات والنكبات والكوارث، فمن حرب مع إيران إلى حصار اقتصادى ودكتاتورية سياسية إلى غزو أجنبى واحتلال أمريكي، وعندما بدأ العراق يتعافى برزت التنظيمات الإرهابية تغتال أمنه وتعصف باستقراره كما فعلت مع معظم دول المنطقة لذلك فإن العراق دفع (فاتورة) غالية فى العقود الأخيرة ومن العجب أنه مازال يواصل دفعها حتى اليوم، فمن تدخلات فارسية إلى أطماع غربية إلى صدامات طائفية بل وخلافات مذهبية والعراق رابض على أرضه يتطلع إلى المستقبل البعيد، ولقد كنا نعتبر دائمًا أن العراق هو البلد التالى لمصر حضارة ومكانة وتأثيرًا فقد كان لدى العراقيين جيش قوى وسلاح طيران متميز فضلًا عن كوادر بشرية متفوقة، ولست أنسى أستاذى من جامعة أكسفورد العراقى النشأة والمولد، البريطانى الجنسية والإقامة (د. فخرى شهاب) وكيف كان تألقه العلمى وتوهجه الفكري، بل إن جامعة بغداد قد تواصلت مع جامعة القاهرة منذ ثلاثينيات القرن الماضى وكأنما عادت منافسة العباسيين فى العراق مع الفاطميين فى مصر والتى كانت أفراح (قطر الندي) بعد ذلك فى ظل الدولة الطولونية مشهدًا تاريخيًا يعكس ذلك التنافس الحميد بين دولتين شقيقتين وحضارتين عريقتين، إنه عراق الشيعة والسنة معًا، عراق العرب والأكراد بلا تفرقة الذى ظلت عروبته مضيئة عبر العصور إلى أن جاء وقت كادت فيه أن تختصر هذه العروبة فقط على مجرد أن العراق بلد مؤسس فى جامعة الدول العربية وذلك بعد جهد دبلوماسى وحوار قومى قاده السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية مع السيد برهم صالح رئيس العراق حاليًا وذلك فى غضون إعداد الدستور العراقى الجديد منذ بضع سنوات، إننى أقول ذلك كله لا لكى أتباكى على ما آل إليه العراق، ولكن لأفتح أبواب الأمل فى عراق عربى قومى صامد، وليدرك الجميع أن الشيعة العرب من أشد الناس إيمانًا بالعروبة لأن قوميتهم سبقت ديانتهم، من هنا فإننى ألفت النظر إلى أهمية التركيز على عروبة العراق حاضرًا ومستقبلًا، لأنها ركن مكين فى البناء العربى الواحد، وأنا أزعم أن انهيار الجبهة الشرقية قد أعطى إسرائيل ميزات جديدة وجعلها تحصد فوائد من أزمات غيرها خصوصًا بعد ما جرى فى سوريا وما كاد يجرى فى لبنان مرة ثانية، إن المصريين الذين لا ينكرون عروبتهم، ولكنهم يؤمنون بالأعمدة الشامخة لهويتهم يعطون ذات الحق للعراقيين ولا يجدون غضاضة فى أن يكون فيهم الشيعى والسنى والمسلم والمسيحى والعربى والكردى والمجوسى واليزيدى فكلهم أبناء تلك الأرض الطيبة التى عرفت (الأعظمية) حيث قبر الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، و(الكاظمية) حيث قبر الإمام موسى الكاظم فهى أرض الجميع، والعراق هو وطن الكل بلا استثناء، ولعلى ألفت النظر هنا إلى ملاحظتين أساسيتين:
ولًا: إن العلاقات المصرية العراقية متكاملة وليست مصطدمة أو متنافسة بل هى فى نهاية الأمر تعبير عن نسيج حضارى مشترك وتكامل قومى لا يخفى على أحد، ويجب أن نتذكر أن الفلاح المصرى وهو شديد الارتباط بأرضه لم يغترب لسنوات طويلة وتمضى به الحياة فى بلد عربى آخر مثلما جرى له فى العراق حيث عاش مواطنًا مقبولًا فى ظل عصر صدام حسين وربما بعده.
ثانيًا: إن الدور القومى للعراق لابد أن يستيقظ وعندما يتعافى ذلك القطر العربى الهام فإنه سوف يمثل إضافة قوية للعمل العربى المشترك والسعى نحو مستقبل أفضل لهذه الأمة التى قال عنها البعثيون إنها أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.
إن العراق الذى عرف الحجاج بن يوسف الثقفى وصدام حسين، إن العراق الذى خرج من بين أكراده البطل صلاح الدين الأيوبى هو ذاته العراق الذى عرف سياسيين من طراز نورى السعيد، وشخصيات مؤثرة حان وقت رد الاعتبار لها مثل عبد الكريم قاسم، إنه عراق المساجد والحسينيات، إنه عراق الأئمة والعلماء، عراق أصحاب السماحة وأصحاب الفضيلة.. أما آن له أن يعود رائدًا فى أمته، قويًا بعروبته، فاعلًا بإمكاناته الطبيعية والبشرية؟ وإذا كنا نتذكر الحسين سيد الشهداء فإننا لا نحمّل العراق الحديث ذنب تلك المأساة بل هى نتاج مؤلم للفتنة الكبرى فى القرن الأول الهجرى .. تحية للعراق العربى وسط أشقائه فى منظومة قومية لا تنفرط أبدًا.
جريدة الاهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/686162.aspx