لقد عشت سنوات عمري مؤمنا بالقومية العربية منحازا للفكر العروبي انطلاقا من الحقبة الناصرية, التي تربيت فيها ـ انا ومعظم ابناء جيلي ـ حين كان العرب يتحدثون صباح مساء عن الشقيقة الكبري والدولة القاعدة و مصر ام العرب ثم جاء علي المنطقة حين من الدهر تبدلت فيه الخريطة السياسية واختلفت موازين القوي, وافرزت بورصة الدول مؤشرات جديدة للصعود والهبوط حتي تحامل الكثيرون علي مصر, واصبحنا امام حالة من الجحود احيانا والتطاول احيانا أخري, ومع ذلك بقينا وسوف نبقي قابضين علي مشاعرنا القومية متحملين مسئوليتنا العربية لاننا نؤمن بأن عروبتنا ليست رداء نرتديه حين نريد ويخلعه عنا من يشاء, بل سوف نردد دائما المقولة الشهيرة ان عروبة مصر قدر ومصير وحياة وقد حان وقت المراجعة, فأنا ممن يظنون ان الامم لاتعيش علي تاريخها, ولاتقتات بشعاراتها, فالمفهوم المعاصر للقومية يؤكد انها ظاهرة ثقافية بالدرجة الأولي, إلا انها تقوم علي شبكة من المصالح المشتركة والغايات الواحدة, وسوف اتطرق في السطور التالية إلي المسكوت عنه في علاقات مصر العربية, فليست الصورة كما تبدو في الظاهر عاطفية وردية بل إن وراء الكواليس ـ في العقود الأخيرة ـ ما يشير إلي تهاوي الصدق القومي واحترام هيبة الدولة النموذج التي علمت وطببت وبنت في مختلف الاقطار العربية, انني اقول صراحة ـ ومن منطلق الحرص الشديد علي الهوية العربية لمصر ـ اننا امام وضع ملتبس وصورة مقلقة, وانا لا اعتمد في ذلك علي تداعيات مباراة في كرة القدم بين مصر ودولة عربية أخري, إلا انني اراها مظاهر كاشفة وليس امورا منشئة, فالقضية تتجاوز ذلك كله, ولعلي اطرح ابرز عناصرها من خلال الملاحظات الاتية:
أولا: انني اظن ـ وليس كل الظن اثما ـ ان هناك نوعا من الغيرة المكتومة لدي بعض الاشقاء تجاه الشقيقة الكبري التي حملت شعلة التنوير لاكثر من قرنين من الزمان, انها مصر بلد الأهرام والنيل والتي جري ذكرها في الكتب السماوية الثلاثة, حتي افاض القرآن الكريم في الحديث عنها عدة مرات, انها التي اشتقت منها كلمة الدول الامصار, وعن طريقها عرف الآخرون النقود المصاري, وهي بلد الفكر والادب والثقافة, بلد حملة بونابرت التي ادت إلي الصحوة ثم دولة محمد علي التي استقلت عن السلطان العثماني عندما دكت سنابك خيول جيوشها هضبة الاناضول والشام والجزيرة العربية وشرق افريقيا وامتدت دولتها من منابع النيل جنوبا إلي حدود اليونان شمالا إنها ليست دولة محمد علي التوسعية, فقط ولكنها ايضا دولة عبد الناصر القومية بعد الحرب العالمية الثانية, انها مصر التي حاربت الجماعات الهمجية وانتصرت علي الهكسوس والمغول والفرنجة, انها مصر ملتقي الثقافات وبوتقة الحضارات التي جاءتها جائزة نوبل تتهادي اربع مرات, مصر التي بنت الاوبرا مرتين,, وحفرت مترو الانفاق لأول مرة في الشرق الأوسط, انها مصر قناة السويس والسد العالي. انها مصر النضال المسلح ضد الغزو الصهيوني علي امتداد عدة عقود, انها كذلك تلك الدولة الفريدة فعندما يطلب المجتمع الدولي امينا عاما للامم المتحدة من افريقيا يكون مصريا, كما ان عاصمتها هي مقر الجامعة العربية بامينها العام المصري ـ وحين نقلوها إلي تونس كان امينها العام تونسيا ايضا ـ فمصر لاتفتئت ولاتستحوذ ولاتغتصب ولكنها تدرك حجمها وتعرف تاريخها. نعم.. ان مصر تئن تحت وطأة المطالب اليومية لأكثر من ثمانين مليونا من البشر ولكنها شامخة لم تركع وشعبها متحضر ولايخنع, لذلك من الطبيعي ان يقلق بعض الاشقاء خصوصا اولئك الذين غابوا عن الخريطة السياسية لعدة قرون, او الذين حاولوا شراء الماضي بأموال الحاضر والاستعداد للمستقبل بمخزون من الاحقاد والنزعات القطرية والتطلعات الوهمية, انهم يرون مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية, مصريا يشغل واحدة من اهم الوظائف الدولية وادقها, كما ان رئيس اتحاد البرلمان الدولي كان مصريا هو الآخر وبدلا من ان يسعد بعضهم ذلك الدور الفاعل للشقيقة الكبري,, انصرفوا للحرب الإعلامية وخلطوا بين عدائهم للسياسة والحكم في مصر وبين كراهيتهم الكامنة لمصر الدولة والكيان والحضارة! ولقد قرأت مؤخرا احصائية تقول ان نسبة من يشاهدون الآثار الفرعونية من السياح العرب لاتزيد علي عشرة في المائة, بينما تصل نفس النسبة بالنسبة للسائح الاجنبي في مصر إلي مايقرب من مائة في المائة.
ثانيا: ان المزاج الوطني لبعض الدول يدعو إلي القلق والحيرة, فالخشونة والعنف إلي جانب درجة عالية من الشيفونية العمياء تعكس كلها شعورا بالنقص, وتعبر عن اختناق تاريخي وعقد شعوبية سوف تظل تطارد اصحابها إلي يوم الدين, وعندما يتعاملون مع مصر تطفو علي السطح غيرة قومية كامنة وشعور بالتضاؤل في مواجهة بلد اشتغل عبر تاريخه كله بصناعة الحضارات ونشر الضياء وتقديم العطاء لكل من لجأ إليها أو لاذ بها.
ثالثا: ان مسألة الهوية في بعض الاقطار العربية مازالت تتأرجح, فالعروبة والإسلام في جانب والمؤثرات الأوروبية في جانب آخر,, وعندما يعاني شعب ما عدم قدرته علي صياغة هويته تبدو مواقفه السياسة وتصرفاته الاقليمية نتيجة طبيعية, لذلك فهي غالبا ما تتسم بالعصبية والحدة والخشونة وافتقاد الحس الحضاري, ولعل ذلك يفسر إلي حد كبير الأعمال غير المبررة ومخزون العداء والكراهية الذي تتجه به بعض الشعوب العربية نحو الاشقاء والجيران بل وفي المحافل الدولية والمنتديات الاقليمية.
رابعا: ان مصر برغم كل ما واجهته في تاريخها الطويل وما تعانيه في حاضرها وربما مستقبلها ايضا ـ هي بلد كبير ليس بمعني الحجم السكاني ولا المساحة الجغرافية, ولكن بمنطق النضوج الانساني والعمق الحضاري, لذلك يستمريء البعض التهكم عليها والتطاول علي مقامها ادراكا منهم بأن ردود فعلها عاقلة متزنة, فهي لا ترفع السيوف في مباراة لكرة القدم, ولاتقذف كرات النار علي منازل اشقاء يقيمون فيها, ان مصر اختزنت عبر تاريخها العريق تجارب الانسان كلها وعبرت مراحل المراهقة السياسية والاضطراب الفكري.
خامسا: إنني ضد التعميم, فهناك أقطار عربية كثيرة تحفظ الود لمصر وتذكر لها الفضل وتعي مسيرة التاريخ المشترك, ويكفي ان نتذكر ان الاشقاء السوريين قد استقبلوا بحفاوة بالغة ذات يوم في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ـ برغم القطيعة الدبلوماسية ـ الفرق الرياضية المصرية في دورة البحر الأبيض المتوسط بمدينة اللاذقية, حيث فوجيء العالم كله بالشعب السوري الشقيق يشجع الفريق المصري بشكل غير مسبوق واحيانا ضد فريقه الوطني ذاته, ولذلك فإنني ارفض التعميم بكل انواعه, وفي الجزائر الشقيق ايضا ملايين يحبون مصر ويذكرون تاريخها باحترام وتجمعهم بها ثقافة احمد شوقي وطه حسين وأم كلثوم وعبدالوهاب, فالتصرفات غير المسئولة عن جماعة معينة ليست بالضرورة تعبيرا مطلقاعن مشاعر شعب بأكمله, وان كنت لا انكر ان الجزائر الرسمية لاتتعامل معنا بالود القومي المنتظر والشعور العربي المطلوب خصوصا في بعض المحافل الدولية, حيث ينظرون إلينا نظرة تنافسية وليست نظرة تكاملية, مع ان صوت التاريخ المشترك يقول بغير ذلك.
انني اريد ان اقول عن احداث وتداعيات مباراة كرة القدم الشهيرة بين مصر والجزائر انها لاتوجد وضعا جديدا, ولكنها تكشف عن مشاعر كامنة تحتاج إلي معالجة عاقلة, خصوصا ان مصر لديها من الادوات والوسائل ما يضع الأمور في نصابها, وواهم من يتصور ان مصر ـ بصبرها وتعقلها ـ عاجزة عن اتخاذ مواقف يشعر بها الجميع ويرتدع بها البعض, فلكل بلد مشكلات دولية واقليمية, ومصر كيان دولي مسموع يستطيع ان يجرح إذا اراد, وان يصيب اذا غضب, ولكن العروبة والإسلام وشراكة القارة الواحدة تمنع مصر من الغلواء, وتنتزع من قلبها روح العداء ونوازع الحقد, انني ادعو الاشقاء العرب في المشرق والمغرب إلي وقفة موضوعية مع مصر يعيدون فيها قراءة التاريخ ويراجعون معها معاناة الكنانة لكي يدركوا ان الشعب العربي في مصر قد امتص في وجدانه كل الحضارات التي عبرت فوق أرضه من الفرعونية إلي العربية الإسلامية, مرورا بالحقبة المسيحية, وكلها رقائق حضارية نعتز بها ونفاخر, ولم يهم مصر كثيرا ان تصل إلي كأس العالم في كرة القدم, فذلك حلم فقط للوافدين الجدد علي المجتمع الدولي والذين يسعون إلي اثبات الوجود وتضخيم الذات وحل العقد التاريخية المركبة, ولحسن الحظ فان الجسد العربي ـ في مجمله ـ معافي, ولقد رأينا كيف استهجنت شعوب الامة جميع التصرفات البذيئة والمواقف غير المسئولة تجاه مصر المحروسة ام الدنيا التي رفعت دائما اعلام التسامح عبر تاريخها الطويل.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/12/1/OPIN1.HTM