أتطرق اليوم إلي موضوع قد يبدو غريبا إذ يدور حول قيمة الإنسان في مراحل عمره المختلفة ودورة الحياة السياسية والاجتماعية التي ترفع وتخفض وتؤكد أننا في مصر أصحاب هوس تاريخي بظاهرة السلطة, وأن نفاق أصحاب النفوذ عادة مصرية متجذرة أضرت بعلاقة المواطن بالسلطة وقدمت للأخيرة مفهوما متفردا لانكاد نجد له نظيرا في عالم اليوم, حتي أنني أظن أحيانا أن بقايا العصر الفرعوني مازالت مترسبة في أعماقنا وأننا مازلنا نقدس من يجلسون علي مقاعد القرار, ونقدم القرابين لذوي السطوة ثم تطفو علي السطح جينات العصر المملوكي في دمائنا فنعيش أوهام الحكم ونتخيل بطش السلطان! إنني أقارن ما يحدث لأصدقاء لي أحيانا عندما يتولون المناصب العليا والتغيرات التي تطرأ علي شخصياتهم بعدها, فلا أملك إلا أن أقول سبحان مغير الأحوال وسبحان من له الدوام! فالسلطة في مصر لاتزال فرعونية الطابع, تصنع مسافة واسعة بين صاحبها ومن حوله, إنني أعرف بعض الوزراء وكيف كان تواضعهم وبساطتهم وابتسامتهم وكانت شراكتهم لنا في الرأي والموقف قبل الموقع الجديد, فإذا جري اختيارهم للمنصب الوزاري أو غيره من المناصب المؤثرة نراهم وقد أصبحوا مخلوقات أخري, نبرة الصوت تتغير ويرتفع الكتفان قليلا بل وتكسو ملامح الوجه مسحة استعلاء لامبرر له, وهم يتقدمون الصفوف ويحتلون ــ بمنطق المراسم ـــ المقاعد الأولي, ويتصورون فجأة أنهم موهوبون, وأنه قد جري أخيرا استكشاف قدراتهم الخارقة والاعتراف بها, بل إن آراءهم وأفكارهم تتحول هي الأخري مائة وثمانين درجة في اتجاه جديد!
وفي ظني أن هذه الظاهرة المتفردة تعكس ميراثا ثقيلا من ركام عصور مصرية متلاحقة بدءا من الفرعون الذي كان يحكم باسم الإله, وصولا إلي المملوك الرعديد الذي جري شراؤه, فلما تم إعتاقه عاث في الأرض فسادا!.. إنها مصر أيها السادة مزرعة الأفكار وتكية التاريخ صاحبة أثقل تراث اجتماعي في الدنيا وأشد الدول حساسية لظاهرة السلطة وتوقيرا لأصحاب النفوذ! إنني أطالع كل صباح مؤشرات بورصة البشر, وأتأمل أوزان الناس وقيمتهم وفقا لظاهرة السلطة واقترابهم منها أو بعدهم عنها مع دورة العمر وحركة الزمن, فإذا غابت السلطة عن أصحابها وانسحبت المقاعد من تحتهم وذهب الحرس إلي حال سبيله وشحب الضوء وتوقف رنين الهاتف, وجدنا بشرا آخرين يستعيدون ذواتهم الأصلية وقناعاتهم الشخصية ويتحولون إلي حملان وديعة يصافحون الناس بحرارة ويبتسمون بسبب وبغير سبب! وصدق الذي قال إن الوزير يفقد نصف عقله عندما يتولي منصبه, ويفقد النصف الآخر عندما يتم إعفاؤه إنني أقول صراحة إن ظاهرة السلطة في بلادنا تختلف كثيرا عن نظيرتها في ثقافات شعوب أخري وأساليب التعامل معها والسلوك تجاهها, فحجم تقديس المنصب كبير في بلادنا وتهويل مكانة الموقع مبالغ فيه عندنا, كما أن حملة القرابين وحاملي البخور هم جزء لايتجزأ من تاريخنا السياسي وتراثنا الاجتماعي, وأنا أحمل ــ صراحة ــ هذه الظاهرة مسئولية جزء كبير من أسباب تخلف الديمقراطية لدينا, وطبيعة المصاعب التي تواجهها في الوطن المصري صاحب التاريخ العريض والتراث الضخم, وأنا لا أقول ذلك بدافع شخصي أو رؤية خاصة, فأنا والحمد لله خارج دائرة الاختيار, ولكن ما أسعي إلي الإفصاح عنه هو استلهام تجربة شخصية مررت بها في مستهل حياتي رأيت فيها وتعلمت منها أن بورصة البشر مثل بورصة المال تتذبذب وتتأرجح وقد تتغير فجأة فتري انعكاسا علي النفس البشرية التي تسعي إلي المنصب وتطرب به, وتحزن لرحيله, وقد تنهار لغيابه, وأبادر هنا فأسجل تحفظا واضحا وهو أنني رأيت نوعية نادرة من المسئولين المصريين الذين أضافوا إلي المقعد ولم يضف هو لهم, وكانوا نموذجا رفيعا في الرقي الإنساني والثقة بالنفس والارتفاع فوق هذه الظاهرة الفرعونية المملوكية المقيتة, وسوف أسجل في السطور القادمة بعض الملاحظات التي توضح ما ذهبت إليه وما قصدت التعبير عنه في بلد قال عنه المتنبي بيته الشهير الذي يتحدث صراحة عن الثعالب التي تسعي لنزح ثروات مصر ونوم النواطير أي الحراس, وغفلة الناس في ظل بلد لاتنضب إمكاناته ولاتنتهي موارده! وسوف أتعرض في ملاحظاتي إلي مسألة الشخصانية والتي تعني إلباس القضايا العامة أردية خاصة, وإلباس التطلعات الخاصة أثوابا عامة, دعونا نتأمل النقاط التالية: ــ
أولا: ــ مازالت أتذكر مناسبتين توضحان الفارق بين معادن البشر وتأثير السلطة عليهم, ففور إنهاء خدمتي في المؤسسة السيادية الأولي تصادف أن كان هناك حفلان للزفاف بعد أسبوع واحد من مغادرة موقعي, كان الأول لابن أحد المحافظين, والثاني لابن ضابط كبير في المؤسسة التي كنت أعمل بها وقد تبوأ بعد ذلك المنصب الثاني في القوات المسلحة, وعندما ذهبت إلي زفاف ابن المحافظ وجدت رجاله يقتادونني في أدب مصطنع وتحفظ واضح تجاه إحدي الموائد الخلفية البعيدة باعتباري مغضوبا عليه ومطرودا من الفردوس, مع أن والد صاحب العرس كان يتملقني صباح مساء وينافقني في اليوم الواحد مرتين علي الأقل! ثم ذهبت بعدها بيومين إلي العرس الثاني فأجلسني والد العريس صاحب الدعوة الكريمة في مائدة الصدارة وفوجئت بوزير سيادي كبير ينتمي إلي مؤسسة نحترمها جميعا يترك موقعه ويتجه نحوي في تواضع الكبار محييا ومقبلا وداعما في ظروف قاسية وفترة عصيبة كنت أمر بها, وذلك يعكس معدن الرجال فالمحافظ السابق دعاني مكرها وأجلسني منبوذا حتي تركت حفله بعد دقائق قليلة أما ابن العسكرية المصرية فقد تنازل من موقعه الرفيع وقام بلفتة إنسانية أخلاقية لا أنساها, فالسلطة تعمي البعض ولكنها لاتمثل شيئا للبعض الآخر!
ثانيا: ــ إنني أتذكر أيضا عندما كنت سفيرا في فيينا وأنا أجلس في سيارتي ذات صباح نمساوي بارد أن لفت السائق نظري إلي السيارة التي تقف بجانبنا قائلا:( سيدي السفير هذا هو مستشار النمسا السيد كليما) ــ ومنصبه يعادل منصب رئيس الوزراء في بلادنا ــ ورأيت المسئول النمساوي يجلس في سيارته بهدوء تحتجزه إشارة المرور فيستغرق هو في قراءة الصحيفة دون شعور بالتميز أو إحساس بالاستعلاء علي الآخرين, بل إنني سمعت في السودان الشقيق مواطنا مغمورا ينادي رئيس الدولة هناك بكلمة الأخ, والرئيس في الخرطوم ينادي سفيره في القاهرة الأكبر سنا قائلا: يا عم أحمد, فالدول المختلفة والحضارات المتباينة تختلف ثقافتها تجاه قضية السلطة من بلد إلي بلد ومن مجتمع إلي آخر ــ بغض النظر عن التقدم أو التخلف ــ ونحن لانزال أسري الطقوس الفرعونية والمراسم المملوكية.
ثالثا: ــ لقد حكي لي زميلي الدبلوماسي بوزارة الخارجية المصرية أنه كان يمر ذات صباح بارد علي ضفاف نهر التايمز في طريقه إلي مبني السفارة المصرية بلندن, فإذا بشخص تبدو عليه مظاهر الاحترام والوقار يستوقفه طلبا( لتوصيله) ثم يكتشف زميلي أن هذا الشخص هو وزير الخزانة البريطانية الذي تعطلت سيارته فرأي أن الملجأ الوحيد هو هذا الأسلوب الحضاري الذي يعكس روح البساطة والتواضع والثقة في الآخرين وهو مالانجد له نظيرا في بلادنا.
... هذه تأملات فيها من الجدية أكثر مما فيها من أي سخرية وفيها من الواقع أكثر مما فيها من أي مبالغة, إنني أكتب هذه السطور بعد أن التقيت أحد الوزراء مؤخرا ــ من أصحاب نفوذ الثروة والسلطة معا ــ ولاحظت أن مصافحته أصبحت نوعا من الملامسة السريعة وأن شعره بالذات قد تضخم كثيرا وقارنت بين وضعه الحالي وما كان عليه منذ سنوات قليلة, وقلت في نفسي( سبحان مغير الأحوال ولاحول ولاقوة إلا بالله).. إنني أريد أن أقول في ختام هذه السطور إن المقاعد والمواقع والمناصب هي تكليف قبل أن تكون تشريفا, وأنها تعبر عن إرادة صاحب القرار, ولكنها لاتعكس بالضرورة تميزا لمن يتولي ولاقدرة خارقة ليس لها نظير, دعونا نعترف بأن ظروفا متشابكة ومصادفات مختلفة تتدخل في تحديد أسعاربورصة البشر فترفع من تريد وتهبط بمن تشاء خلال مساحة زمنية قصيرة, بل إنه عندما يحال المرء إلي التقاعد قد تهبط اسهمه فجأة في بورصة البشر!.. إنه كون عجيب وكوكب مضطرب ودنيا لاتبقي علي حال, حيث لاخلود إلا لله وحده.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/11/3/OPIN1.HTM