لم يتبلور الموقف الحقيقي للوطنية المصرية إلا مع ميلاد الدولة المدنية الحديثة, التي تعتبر الحملة الفرنسية دافع ظهورها المباشر, بينما يبقي محمد علي مؤسسها ـ سواء تم ذلك بوعي منه أو رغما عنه ـ ولقد ظلت الحركة الوطنية المصرية دينية الطابع إسلامية الشخصية حتي أنه عندما سحب الباب العالي دعمه لـ أحمد عرابي انفض مؤيدوه من حوله, وعندما ارتفع صوت مصطفي كامل كان مدعوما من الآستانة! فمباركة الخلافة كانت شرطا لمشروعية الحركة الوطنية المصرية وسندا لها الي أن ارتفع شعار مصر للمصريين في غمار الثورة الشعبية عام1919 فكان ذلك إيذانا بالميلاد الحقيقي للوطنية المصرية الخالصة التي ارتبطت بتيار مصري لا يخلو من مسحة ليبرالية ولا يبرأ من بعض مظاهر العلمانية التي توجتها شعارات الوحدة الوطنية, ولقد تجسدت هذه المعاني من خلال التيار الحزبي الكاسح الذي مثله الوفد ـ حزب الأغلبية فيما بين1919 و1952 ـ ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة, فقد اعترضت المسار تيارات مختلفة وعوارض أخري لا تقل قوة وتأثيرا ويمكن أن نرصدها في النقاط التالية:
أولا: إن بروز حركات الإسلام السياسي مع ميلاد جماعة الاخوان المسلمين علي يد الإمام حسن البنا في مدينة الإسماعيلية عام1928 كانت له تأثيراته وتداعياته التي مازلنا نعيش آثارها حتي اليوم, فالجماعة التي ظهرت بعد أربعة أعوام فقط من سقوط آخر خلافة إسلامية, أقول إن هذه الجماعة لم تقف علي أرض وطنية مصرية قدر وقوفها علي أرض إسلامية أممية حتي أن المتظاهرين من جماعة الاخوان كانوا يرددون في أثناء حملات الانتخابات البرلمانية في أربعينيات القرن الماضي, شعارا يقول صوت( للنحاس) صوت ضد الإسلام! وهم الذين تحالفوا تاريخيا مع القصر وكانوا رصيدا طبيعيا للملك في مواجهاته مع حزب الأغلبية, لقد اختاروا دائما ظل الخلافة والملك بدلا من ظل الوطن والشعب, وأنا لا أقول ذلك من موقع الانتقاد المطلق للجماعة بقدر ما أريد أن أؤكد أن الجماعات الدينية بطبيعتها تجعل لولائها لتنظيمها أسبقية علي الولاء للوطن, ولقد حدث ذلك في كثير من أقطار العالم الإسلامي, بدءا من مصر وصولا الي فلسطين مرورا بالجزائر وأفغانستان وغيرهما, وهذه زاوية خطيرة يجب أن نتنبه لها, فالوطن هو الأصل وهو الأول ولا تعارض في ذلك مع الانتماء العميق للدين الحن
يف, وليتذكر هؤلاء واولئك ممن يردون علي ما نقول بغير وعي أن محمدا صلي الله عليه وسلم عندما أكره علي الهجرة بسبب بطش الكفار وتعنت المشركين اتجه ببصره نحو المدينة المقدسة مكة المكرمة قائلا:( والله إنك أحب بلاد الله الي ولولا أن أهلك أخرجوني منا ما خرجت), ففكرة الانتماء الي الوطن واضحة تماما في الاسلام, فليدرك الإسلاميون والمتأسلمون أن الانتماء لأوطانهم يجب أن يسبق جماعاتهم الدينية أو تنظيماتهم الدعوية, وفي هذه النقطة بالذات تكمن الخطيئة الأولي في حق المواطنة وهي خطيئة تكتب الأحرف الأولي في مأزق الوطنية المصرية.
ثانيا: إن الوطن يحتوي كل أبنائه ويتسع لكل شركاء المكان والزمان, ومن العبث تصنيف جماهير الشعب لأسباب تتصل بأصل أو دين أو لون أو جنس, فالمواطنة تعني المساواة بين مختلفين, فهذا غني وذاك فقير, وذلك رجل وتلك امرأة, وهؤلاء مسلمون واولئك مسيحيون, وهناك مصريون جاءوا من أصول إفريقية وآخرون قادمون من أصول عربية أو بحر متوسطية أو مغاربية, ولكن الجميع متساوون في مراكزهم القانونية وحقوقهم السياسية وفرصهم في الحياة بطقوسها المختلفة, وهذا يقتضي التركيز علي المثلث الذهبي بأضلاعه التعليم والثقافة والإعلام, إذ يجب أن يدرك الجميع أن مصر محسودة علي انصهارها السكاني واندماجها الاجتماعي ولا يجب العبث إطلاقا بالتقاليد الوطنية الصميمة التي أرسي دعائمها أجدادنا العظام عندما تبنوا شعار الدين لله والوطن للجميع, وأنا أتحدي من يجد سببا للتمييز بين المسلم والمسيحي في مصر, فاللغة واحدة والمزاج مشترك والسلوكيات متطابقة وأنماط المعيشة لا تختلف.
ثالثا: إن من أبرز جوانب مأزق الوطنية المصرية, هو ذلك الفهم المغلوط لفلسفة قيادة الأوطان, فالبعض يخلط بينها وبين إدارة الشركات بينما الفارق واضح وضخم فهذا خلط تحكمي لا يخلو أحيانا من سوء فهم, فالشركات التجارية أو المؤسسات الاقتصادية يجري تقويمها وفقا للعلاقة بين حجم الأرباح وكمية الخسائر بشكل مجرد لا يعرف البعد الاجتماعي ولا الدفء الإنساني, قد يكون فيه استقصاءات رأي وأبحاث ميدانية وكلها قد لا تعكس بالضرورة طبيعة الانسان المصري, أما قيادة الأوطان فهي تضع في اعتبارها أمورا أخري تماما إنها الجامعة والمدرسة, الحزب والنقابة, المسجد والكنيسة, إنها الأحياء الشعبية والعشوائيات, وهي أيضا المتاحف والقناطر والسدود, إنها الصحافة والإعلام المرئي والمسموع, انها هؤلاء وغيرهم كما أنها رفاعة الطهطاوي وأحمد عرابي ومصطفي كامل وسعد زغلول والنحاس وعبدالناصر والسادات ومبارك وطه حسين والعقاد وأم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهم من شوامخ الفن المصري.. إنها النيل والأهرام!
رابعا: إن كسر الحلقة الشريرة للاشتباك غير المقدس بين الثروة والسلطة في جانب والدين والسياسة في جانب آخر, هي أمور لازمة قبل أن نشرع في تحديد خريطة المستقبل, وهنا مربط الفرس لأن هذا التداخل قد أصاب مبدأ المواطنة في مقتل, بل وأدخل الوطنية المصرية ذاتها في نفق مظلم وامتحان عسير وجسد الي حد كبير أزمتها الراهنة ومشكلتها الحقيقية, ولقد جاء الوقت الذي يجب أن تضرب فيه الدولة بشدة علي كل مظاهر الفساد المالي والإداري بل والعبث السياسي أيضا, فشيوع الفساد والسطو علي المال العام وتوظيف المواقع السياسية لخدمة أغراض اقتصادية هي كلها مظاهر سلبية مقلقة, لذلك يجب أن ندرك هنا أن استشراء الفساد بكل مظاهره المعروفة والخفية يؤدي الي أزمة ثقة حقيقية بين الأجيال الجديدة التي تفتقد القدوة وتشعر بغياب المصداقية والشفافية واختفاء مبدأ تكافؤ الفرص واعطاء من لا يستحق ما هو حق للغير, ويجب أن نؤكد هنا أن مأزق الوطنية المصرية في هذه الحالة يتجسد في حالة الاحتقان الشائع والتربص المتبادل بين قوي المجتمع وتياراته المختلفة.
خامسا: إن الاختيار الصعب أمام الوطنية المصرية يكاد يتلخص من خلال تساؤل واحد مؤداه هل يرضي المواطن بالتطرف أم يقبل بالفساد؟! أي ان عليك أن تختار بين أحد الاشتباكين الدين والسياسة أو الثروة والسلطة وهما أمران أحلاهما مر, والرد الوطني الحقيقي علي ذلك هو أننا نريد بلدا تسود فيه الأفكار الليبرالية الحديثة وينشط معه الاقتصاد الحر ويقود الدين اخلاقيات المجتمع بدلا من أن يقود زمام السياسة, وتسعي فيه الثروة الي اقرار العدالة الاجتماعية, وتتحرك فيه السلطة نحو الديمقراطية الكاملة, وليس ذلك أمرا بعيدا علي مصر فالايجابيات كثيرة أيضا.. عقول بشرية متميزة وأفكار وطنية مستنيرة وروح مصرية لا تموت لذلك سوف نخرج من عنق الزجاجة يوما وينتهي مأزق الوطنية المصرية أبدا.
إن ما أقوله ليس نوعا من الشيفونية الصماء وليس تحليقا وراء أوهام ولكنه سعي لتحقيق أحلام, وتغريد داخل السرب الإنساني مع مفردات العصر بما فيها من حريات عامة وفردية, وحقوق إنسان عصرية, واحترام أقليات, ورعاية بيئة, وتوسيع دائرة المشاركة السياسية مع الإيمان بتداول السلطة ودوران النخبة.. ولا تنسوا أبدا أن مصر ليست بلدا عاجزا ولا وطنا عقيما إنها أم الدنيا!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/7/28/OPIN1.HTM