لاشك أن المصريين- شأن كل شعوب الارض- معنيون بالتفكير في المستقبل واستدعاء المجهول, ويسيطر حوار دائم في هذا الشأن علي المنتديات السياسية والحلقات النقاشية بل والجلسات العائلية,ذلك أن مصر بلد كبير وقديم وخارطة الطريق أمامه ينبغي أن تكون واضحة ومقروءة, فأسوأ ما تعاني منه الأمم هو أن تدخل في جدل ضبابي عقيم لا تدرك معه التوجهات الحقيقية لبوصلة المستقبل لذلك سوف أمضي في السطور القادمة عبر محاولة لاستشراف المستقبل, والتطلع الي غد ينظرإليه الوطن المصري بالأمل والقلق في آن واحد, وهنا أستسمح القاريء في أن أمشي في هذه العجالة فوق الاشواك حيث دافعي موضوعي بالدرجة الاولي ينشد الاستقرار لبلد ينتمي إليه ووطن يتعلق به, لذلك فإنني أطرح الافكار التالية:
أولا: ان التغيير سنة الحياة كما أن التداول هو فلسفة الكون, وأنا أظن أن رئيس مصر قد أعطي لهذا الوطن كل عمره وسوف يتواصل عطاؤه أمد الله في عمره, ولا خلاف بين المصريين- مؤيدين ومعارضين- علي أنه هو حائط السد المنيع أمام محاولات استهداف مصر أو توريط نظامها أو توظيف دورها في غير صالحها, ولذلك فسوف يذكر التاريخ أن الرئيسين الكبيرين اللذين سبقاه كانت أخطاؤهما ناجمة عن بعض أفعال أقدما عليها, أما الرئيس الحالي فسوف يكون تقويمه الموضوعي مختلفا إذ تأتي الانتقادات من أمور أحجم عنها ولم يغامر بها, وتلك ميزة تحسب له ولا تؤخذ عليه, كما أن الرجل تمتع دائما بصبر طويل ولم يتصف أبدا بالتعجل في ردود الفعل ولم يبتلع( الطعم) الذي احتوته شباك الآخرين وهم يلقون بها في مياهنا الاقليمية,
ثانيا: أن أهم ما يعنينا جميعا هو الانتقال السلمي للسلطة- بعد عمر طويل بإذن الله- لأن مصر لا تحتمل الفوضي الخلاقة أو غير الخلاقة! كما أنها بلد مركزي عريق لا يستوعب صراعات داخلية أو مواجهات سياسية خصوصا أن دستور البلاد ينظم بشكل محدد إجراءات الانتقال السلمي المتحضر لرئاسة الدولة بغض النظر عن شخص القادم الجديد وقد يحتاج الامر الي اعادة ترتيب أوضاع البيت وتطهير أركان الدولة من بعض مظاهر الفساد الذي حاربه النظام الحالي كثيرا مع التخلص من بعض الرموز التي تفتقر إلي الشعبية والتواصل مع الجماهير, ولست أشك لحظة في أن المؤسسة العسكرية- حامية الوطن وصمام الأمان لمستقبله- سوف تقف مع الدستور والشرعية وتحمي الديمقراطية وتكون سياج أمان لوطن يعتز بها وشعب تنتمي إليه.
ثالثا: إننا يجب أن نركز علي سلامة إجراءات الانتقال السلس للسلطة مع التبشير بالقيم الديمقراطية الحقيقية فليس المهم من هو القادم الجديد بقدر ماهي شفافية عملية وصوله إلي السلطة, فالمشاركة السياسية الواسعة واحترام الدستور والانصياع لارادة المصريين هي الأمر الفصل في تقويم عملية الاختيار, كما يجب ألا يتخذ البعض مواقف مسبقة من بعض الشخصيات لأسباب تتصل بارتباطاتهم الأسرية أو انتماءاتهم العائلية, فالعبرة بالكفاءة والنزاهة والرغبة والقدرة معا في خدمة أعرق الأوطان وأقدم الأمم شريطة أن يقف الجميع علي أرضية وطنية صلبة لأن قيادة الأوطان تختلف عن إدارة الأحزاب أو المؤسسات أو الشركات, فالوطن معشوق فريد يسيطر علي العقل والقلب في وقت واحد.
رابعا: إنني أظن أن فك الاشتباك بين الدين والسياسة يقتضي معالجة موضوعية وعادلة لفكر جماعة الاخوان المسلمين- المحظورة قانونا الموجودة واقعا- فمن غير المتصور أن ندخل كل عدة سنوات في انتخابات نيابية يتم فيها تبادل الاتهامات والتراشق بالانتقادات, فالاخوان يتهمون الحكومة بالتزوير المادي, والحكومة تتهمهم بالتزوير المعنوي لإرادة الناس من خلال التلويح بشعارات دينية تستهوي قلوب الجماهير في دولة يعرف الجميع أن المشاعر الدينية متجذرة فيها بل وملتهبة, لذلك فإنني أدعو الجماعة إلي مراجعة فكرها وأسلوب عملها خصوصا أن اداء أعضائها في البرلمان الاخير لم يكن لصالحهم اجمالا, وأنا أعترف أن من بينهم عناصر معتدلة وحصيفة ولكن من بينهم أيضا من اعتمدوا أسلوب الصراخ الدائم والضجيج المفتعل والرفض المستمر لكل ماهو سلبي أو ايجابي متي كان قادما من جانب الحكومة! وهو أمر يسلبهم رداء الموضوعية, ويحرمهم من المشاركة الايجابية في بناء الوطن, إنني أختلف معهم في الرأي, ولكنني اتفق مع حقهم في ابدائه, فالامام الشافعي رضي الله عنه يقول:( ان رأيي صواب يحتمل الخطأ,
ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب), كما أن الحضارة الغربية علي الانب الآخر من الحضارة الاسلامية تقول علي لسان المفكر الفرنسي فولتير:( إنني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا للدفاع عن رأي أختلف معه), وقد آن الاوان لكي تنصهر جماعة الاخوان المسلمين في بوتقة الشرعية السياسية من خلال اعترافها بأن الامة هي مصدر السلطات, وأن تداول السلطة ودوران النخبة حق لجميع القوي السياسية وليست حكرا علي واحدة منها مع التوقف عن استخدام الشعارات الدينية في غير موضعها, فالدين شعور مطلق, أما السياسة فهي أداء نسبي يختلف باختلاف الزمان والمكان, وخلط الدين بالسياسة مثله مثل خلط الماء بالزيت فلا يمتزجان, والماء هنا هو شبيه الدين لانه مطلق حيوي دافق والزيت هو نظير السياسة لزج يلوث كل من يقترب منه وبقعته لا تزول بسهولة, فالسياسة داء لعين ومرض مزمن.
خامسا: ان الاشتباك بين السلطة والثروة أي التداخل بين مراكز القوي السياسية وبين أعصاب الحياة الاقتصادية قد أدي بدوره هو الآخر الي فساد في الادارة وضعف في السياسة واختلاط للأمور, ونحن مطالبون الآن أكثر من أي وقت مضي بكسر هذه الحلقة الشريرة وفض الاشتباك بين طرفي المعادلة, وأنا بالمناسبة لست ضد رجال الاعمال الوطنيين خصوصا وأن منهم مفكرين معنيين بالحياة السياسية وفيهم خبراء في الادارة ومنهم رموز وطنية لا نستطيع الإقلال من قدرها, ولكنني أدعو فقط الي تصفية ذلك التحالف غير الشرعي من أجل نزاهة الحكم وشفافية الادارة وإفساح الطريق السليم امام الاجيال القادمة, ولابد أن اعترف هنا أن فض الاشتباك بين السلطة والثروة هي عملية أسهل وأسرع بكثير من فك الاشتباك بين الدين والسياسة, وبهذه المناسبة فإنني أقول إنني مع تأصيل دور الدين في المجتمع بالدعوة الي المعروف والنهي عن المنكر وتربية النشء والشباب علي القيم الدينية الصحيحة التي تعلي من قيمة الوطن وترفع من شأن المواطنة, بدلا من عملية خلط الاوراق التي تصيب الاجيال القادمة بالإحباط والتوتر علي نحو يدفعهم الي حالة من الضياع.
.. هذه أفكار أطرحها من أجل حوار وطني شامل بين القوي السياسية المختلفة والأحزاب المتعددة ومؤسسات الدولة بلا استثناء, وأنا أدعو هنا الي ضرورة تقوية الاحزاب لكي تصبح مدارس لتربية الكوادر السياسية مع دعم النقابات لتصبح مدارس لتربية الكوادر المهنية والعمالية, ودعم الجامعات لتصبح مراكز مضيئة للبحث العلمي والتقدم التكنولوجي, لذلك فإن الحوار المطلوب يجب أن يتسم بالاعتدال والموضوعية, ولا ينزلق نحو طرق تفضي به الي الهاوية, فالوطن أعظم وأغلي من العبث بحاضره أو مستقبله خصوصا وأننا جزء من أمة عربية تنظر إلينا في إكبار, بينما ترتفع فيها أصوات تدعي أحيانا تراجع دورنا, حيث يغيب عنها فهم أوضاعنا لانها ترفض القبول بسياساتنا, وعندما وقف الرئيس الامريكي باراك أوباما علي منصة القاعة الكبري لجامعة القاهرة في يونيو2009 فقد كان ذلك حدثا رمزيا ضخما يدفعنا الي الامام ويشدنا نحو المستقبل ويرد علي أصوات نكراء تعالت ضدنا ولم تكن أمينة معنا,
انني أقول صراحة إن مستقبل مصر سوف يشارك بالضرورة في صياغة مسار المستقبل العربي والإسلامي معا, كما سوف يعطي زخما إيجابيا لإفريقيا والشرق الاوسط بل وحوض البحر المتوسط ايضا.. إن مصر التي صنعت التاريخ لابد وأن تتهيأ لصناعة المستقبل!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/6/30/OPIN6.HTM