مثلما يقرأ الزائر لبلد معين درجة الانضباط فيه من أحوال المرور عبر شوارع العاصمة, فإن الخبراء الاجتماعيين يقرأون الحالة النفسية, ويفهمون البيئة المحيطة من خلال صفحات الحوادث في الصحف المحلية لأنها تعكس بالضرورة نوعية الجريمة ومدي انتشارها, كما أن تحليلهم لها يعطيهم القدرة علي فهم ما يدور في المجتمع ويغطي أمراضه المتوطنة, ومشكلاته الطارئة علي حد سواء, كما أن نوعية الجريمة هي مؤشر كاشف لدرجة السلامة العقلية للمجتمع يستطيع منها من يريد أن يفهم شعبا بذاته الغوص في أعماق تجمع بشري معين, وفهم ظروفه المختلفة,
ولقد حفلت صفحات الحوادث المصرية في الأشهر الأخيرة بكم هائل من الجرائم الوافدة علي المجتمع المصري التي تعكس إحساسا بالقلق, وشعورا بالإحباط, وتدق ناقوس الخطر لأوضاع جديدة طرأت علي مجتمع قديم عرف الدولة المركزية قبل كل دول المنطقة المحيطة, إذ أن مصر دولة معروفة تاريخيا بقوة القبضة الأمنية, وهيبة الحكم, وسطوة الأجهزة المتصلة بالأمن الجنائي والسياسي معا, والقدرة علي تعقب المجرمين, وفتح الصناديق المغلقة لأسرار الجرائم الغامضة, وذلك كله بسبب ما هو متاح أمامها من حرية في الحركة, واتساع في دائرة الاشتباه, ووجود ميزات كثيرة يقع في مقدمتها طبيعة الشعب المصري الذي يهوي الثرثرة, ولا يتحمس كثيرا للاحتفاظ بالأسرار, أو حجب المعلومات, وأستطيع هنا أن أرصد عددا من العوامل التي تقف وراء ما يحدث حاليا, والدوافع التي تتحكم فيما يدور, لذلك أستأذن في عرض النقاط التالية:
أولا: إن الفقر أب شرعي للجريمة, لكنه ليس المسئول الوحيد عنها, فهناك جرائم الأثرياء أيضا التي يجب تصنيفها في ملف مختلف لأسباب لا تتصل بالضرورة بالدوافع المادية قدر ارتباطها بالدوافع الأخلاقية, ونعود مرة أخري إلي قضية القضايا وهي وقوع عشرات الملايين من المصريين تحت خط الفقر بمعناه المعاصر أي قصور الموارد المتاحة عن تلبية الاحتياجات الجديدة, حتي وإن لم تكن تلك الاحتياجات ضرورية, فكماليات الأمس أصبحت ضرورات اليوم, وفي ظني أن انتشار العشوائيات هو واحد من الأسباب التي تختفي وراء شيوع الجريمة لارتباطها بالفقر أولا, وبانعدام الخدمات الضرورية ثانيا, فضلا عما تزرعه في النفوس من إحباط, بل وحقد, وما تنشره من دوافع الجريمة, وعوامل التوتر.
ثانيا: إن انتشار المخدرات, خصوصا الأنواع الأكثر تدميرا منها قد أدت بدورها إلي شحن العقول بمظاهر الهلوثة, وخيالات اللحظات المجنونة التي يقدم صاحبها علي ارتكاب الجريمة بلا وعي حقيقي, أو مسئولية كاملة, ولقد كان شبابنا منذ عدة عقود يجلسون في النوادي أو المراكز الشعبية وأقصي أمانيهم زجاجة صغيرة من الجعة, أو سيجارة ملغومة! فلما تعقبت الدولة ذلك بالإلغاء وتغليظ العقوبة, اتجه الشباب إلي السموم الجديدة وأصبح الهيروين والكوكايين وكل أنواع البودرة القاتلة والحبوب المدمرة هي البديل الطبيعي للمشروعات الخفيفة, أو المخدرات البسيطة, وسيطر الإدمان علي قطاع كبير من أبنائنا وبناتنا وهم في ربيع العمر لم يقطفوا بعد زهرة الحياة ولم يستكملوا مسيرة الشباب,
وتشير سجلات وزارتي الداخلية والعدل, وأروقة المحاكم إلي أن معظم الجرائم التي جري ارتكابها قد حدثت تحت تأثير المخدرات من مدمنين لم يفرقوا في لحظات خاطفة بين الخطأ والصواب, ولا يخالجني شك في أن الأغلب الأعم من الجرائم الجديدة تحدث تحت تأثير الأنواع الحديثة من المسكرات والعقاقير المخدرة التي تدخل بصاحبها في مراحل الغيبوبة والوهم, وهنا تثور ملاحظة تستحق التأمل, وهي أن جرائم الأثرياء ترتبط بالمخدرات مثلما ترتبط جرائم الفقراء بها أيضا, والفارق يكون في نوعية المخدر, وإمكانات المدمن وقدراته المالية, لذلك فإن الحرب علي المخدرات هي أيضا حرب علي الجريمة بكل أنواعها, وكثيرا ما نقرأ عن أنواع من الجرائم غير المسبوقة كأن يرتكب شخص محبط جريمة قتل من أجل بضعة جنيهات! ولا يخالجني شك في هذه الحالات أن مرتكب الجريمة قد فعلها وهو تحت تأثير المخدر الذي جعل عملية القتل وإزهاق الروح ممارسة سهلة يقدم عليها باندفاع وبلا وعي.
ثالثا: لقد شاعت في السنوات الأخيرة في مصر نوعية من الجرائم التي يمكن تسميتها بالجرائم العائلية, فأب يقتل أولاده, وأم تخنق طفلها, وفرد واحد يدمر عائلة بأكملها, فليس هناك عاقل يتصور أن يقتل أب ابنه وابنته الكبيرين اللذين يشغل كل منهما وظيفة ناجحة بعد أن يقتل زوجته أيضا( أمهما) لمجرد أنه خسر بعض أمواله في اهتزازات البورصة, ولا يمكن أن يتصور أن يقوم أستاذ جامعي مرموق في إحدي كليات الطب بقتل شخص في عيادته مهما تكن الدوافع والأسباب ولمجرد دين مالي لا يمثل رقما كبيرا بالنسبة للمدخول السنوي لذلك الطبيب الشهير, إننا أمام أنواع من الجرائم تعكس حالة الاحتقان في المجتمع, فالآباء يتحولون إلي قتلة, والزوجات إلي مجرمات, وملائكة الرحمة إلي شياطين اللحظة! فضلا عن عشرات الجرائم الأسرية الأخري المرتبطة بالفقر والعشوائيات والمخدرات بدءا من القتل وصولا إلي السرقة مرورا بزنا المحارم.
رابعا: يبدو أن المجتمع المصري قد خرج علي تقاليده, وانسلخ عن تعاليم دينه, برغم التدين الشكلي والصلوات والدعوات وأصحاب الفتاوي التليفزيونية, وعشرات الآلاف من الذاهبين إلي الحج والعمرة سنويا, فضلا عن الملايين من المترددين علي المساجد والكنائس, وإلا فكيف نفسر قيام رجل كبير وزوجته المحجبة بمشروع متكامل لتبادل الزوجات حتي في أيام شهر رمضان الفضيل الذي تختفي فيه شياطين الجن, ويمرح شاطين البشر! وقس علي ذلك عشرات النماذج من ظواهر الخروج علي ناموس الحياة, وتعاليم الدين, وتقاليد الشعب المصري العريق حيث يجري كل ذلك برغم الوجود الأمني المكثف, وإن كنت أشعر أحيانا أن الأمن الجنائي مظلوم أمام الأمن السياسي في بلادنا,
وأن أحيي بهذه المناسبة الجهود المضنية لرجل الشرطة المصري الذي لا يتناسب ما يقدمه للوطن مع عائده في كثير من الأحيان, كما أنني أدرك جيدا الظروف التي تعمل فيها الشرطة المصرية متحملة من الأعباء ما تنوء بحمله الجبال, بدءا من محاربة الإرهاب, وصولا إلي إنفلونزا الطيور والخنازير, مرورا بجميع مشكلات المجتمع وقضاياه, ققد القينا عليهم العبء وتصورنا أن مسئوليتنا تنتهي عند ذلك, وهذا خطأ كبير لأن ضبط إيقاع الشارع المصري ومكافحة الجريمة فيه وردع عناصر البلطجة هي مسئولية مشتركة تتقاسمها قوي المجتمع المختلفة, وفئاته المتعددة, وليس من العدل أن نترك الشرطة تواجه جميع مشكلاتنا وحدها في الميدان.
خامسا: قد يقول قائل ولم كل هذه الثرثرة؟ إن الجريمة غير المسبوقة شائعة في كل دول العالم, أو لم نقرأ عن ذلك الأب النمساوي الذي اغتصب ابنته لأكثر من عشرين عاما واحتجزها في قبو تحت الأرض وأنجب منها سبعة أطفال, وظل يمارس تلك الجريمة المزدوجة حتي وصل إلي منتصف السبعينيات من عمره الملوث, وقد جري اكتشاف جريمته الغريبة والشاذة واللامعقولة بالمصادفة وحدها؟!
وهنا أقول: نعم.. الجريمة لا وطن لها, وإن كانت للمجرم جنسيته, كما أنها لا ترتبط برجل أو امرأة, بفقير أو غني, بجاهل أو متعلم, إنها ميراث بشري أزلي منذ قتل قابيل أخاه هابيل وحاول أن يخفي سوءته فتعلم من غراب أسود كيف ينبش في الأرض ويدفن جسم الجريمة. لقد جبل الإنسان علي طبائع شر برغم اعترافي بوجود كل نوازع الخير, لكنها في النهاية فلسفة الوجود, وطبيعة الحياة, وسنة الكون, وأمراض الإنسانية.
تلك الخواطر استبدت بي لأنها وليدة لحظات اكتئاب ينتابني كلما قرأت عن الجرائم الجديدة حيث يعتريني شعور حزين بأن تقدم مسيرة الإنسانية يواكبه أيضا تقدم علي الجانب الآخر للجريمة المنظمة, والأفعال الآثمة, والتجاوزات غير المسبوقة!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/5/19/OPIN3.HTM