تتميز الحياة المصرية في هذه المرحلة بعدد من الخصائص التي تستحق البحث والدراسة, أولاها إحساس بأن مصر مستهدفة من اتجاهات كثيرة, وثانيتها شعور بنوع من الاحباط والاستغراق في جلد الذات, وثالثتها طبقات من الضباب الكثيف الذي تحجب غلالاته الرؤية نحو المستقبل, وإذا كنا نسلم بالخصوصية القطرية لكل دولة علي اعتبار أن شخصية الشعوب تتمايز وتختلف وفقا لظروفها التاريخية وأوضاعها الجغرافية وما يحيط بها من مناخ عام إقليميا ودوليا, إلا أننا ندرك أن الحالة المصرية تبدو محتاجة إلي إسعاف سريع يمنع عنها موجات الشطط ونوبات اليأس ومحاولات من لا يريدون لها خيرا,
وبالمناسبة فإن مصر مستهدفة عبر تاريخها الطويل كما أنها دولة محورية في موقع مفصلي بما يضفي عليها كما هائلا من الضغوط الخارجية مثل تلك التي عصفت بمشروع محمد علي التوسعي ومشروع جمال عبد الناصر القومي, بل إن الكثير مما يبدو مقبولا في الدول المحيطة ويجري التهوين منه لدي الغير يتم التهويل فيه عندنا, فإذا قلنا إن المظاهرات والاعتصامات والاضطرابات والاحتجاجات ظواهر ديمقراطية عادية في دول العالم المختلفة فإن الأمر يختلف بالنسبة لـ مصر إذ يجري استخدام مثل هذه الأحداث للتبشير بحالة فوضي والادعاء بأن مصر تواجه كارثة!
كما أن الايجابيات قد ضاعت تماما في زحام الحديث عن السلبيات, بل إني أشفق أحيانا علي أجيالنا الجديدة وهي تري الصورة محبطة تماما وكأن المستقبل مظلم أمام من يبدأون الحياة في مقتبل العمر ومستهل الرحلة علي ضفاف النيل, ولعلي أفرد الآن شيئا مما أوجزت في هذه المقدمة موضحا الملاحظات التالية:
أولا: إنني لا أفترض أن الصورة براقة وأن الأوضاع وردية, وأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن, بل إنني صاحب الحديث المتكرر عن الاشتباكين: اشتباك السلطة والثروة الذي أنتج الفساد المالي والإداري, واشتباك الدين والسياسة الذي أدي إلي الغلواء والتطرف وضرب الديمقراطية في مقتل, فالشعارات الدينية تستهوي الناس ـ في شعب متدين بطبعه مؤمن بفطرته ـ فلا يحسنون الاختيار أحيانا كما تستعدي الحكومة علي الجانب الآخر فتحاول تعطيل وصول من يرفع تلك الشعارات, ولقد تفاءل الكثيرون بدخول رجال الأعمال ـ
وما أكثر الشرفاء منهم ـ إلي ساحة العمل السياسي, ولكن الأمر قد أضحي بحاجة إلي شجاعة المراجعة لنكشف سلبيات التجربة علي المستويين التنفيذي والتشريعي, كذلك فإن المؤسسات المصرية العريقة قد تعرضت هي الأخري لهجمات لا مبرر لها وضربات مفتعلة, بل إنني أشعر أحيانا أن هناك من يحمل معاول الهدم ويدق في الأساس القوي للدولة المصرية غافلا أو عامدا!
ثانيا: تشهد الساحة السياسية المصرية نوعا من الترقب والانتظار وافتقاد الشعور بالأمان وهو أسوأ شعور ينتاب البشر, لذلك كثر الحديث عن تراجع الدور واختفاء التأثير وسط كم هائل من التفسيرات والتأويلات والشائعات, ولابد أن اعترف هنا بأن الصحافة المصرية قد لعبت دورا في ذلك مستخدمة اتساع مساحة حرية التعبير خصوصا المكتوب في السنوات الأخيرة, وفي ظني أننا لن نستطيع مواصلة المطاردة المتبادلة بين الحكومة والمعارضة ـ الدينية تحديدا ـ
بل إنني أظن أنه قد آن الأوان لاتخاذ وقفة موضوعية يتم بها إجراء مصالحة وطنية شاملة تؤدي إلي الاعتراف بكل القوي السياسية شريطة إيمانها بالوطنية المصرية والتزامها بالروح القومية وقبولها الديمقراطية الحديثة مع التسليم المطلق بمبدأ أن الأمة هي مصدر السلطات.
ثالثا: إنني اتحسس وسط الظلام محاولا استشراف روح المستقبل من خلال التركيز علي عدد من الايجابيات علي الجانب الآخر من شاطئ السلبيات التي تلوث نهر الحقيقة وتدفعنا إلي الوراء, فهناك مؤشرات موثوق بها تتحدث عن تحسين في الاقتصاد المصري وحد أدني من التأثر بالأزمة المالية العالمية, وهناك أيضا وعي شامل بضرورة تماسك الجبهة الداخلية والإصرار علي الوحدة الوطنية لأن الجميع يدرك أن قوة مصر الحقيقية تكمن في تجانسها البشري وتوحدها الإنساني وابعادها التاريخي عن التعصب أو الطائفية بمنظوريها الديني والسياسي.
رابعا: إن في مصر صحوة ثقافية أتابعها في عدد من القطاعات, فعندما رأيت شارع المعز بوسط القاهرة بعد تجديده وترميم مساجده أدركت أن المصريين قادرون علي الفعل الايجابي إذا ما خلصت النوايا وصدق العزم, كما زرت متحف محمد محمود خليل منذ بضعة أسابيع لاكتشاف أن لدينا أضخم مجموعة من اللوحات العالمية ـ خارج أوروبا ـ وقبلها بأيام حضرت الاحتفال بتدشين المطار الدولي الجديد وبهرني يومها ما رأيت واكتشف أننا قادرون علي فعل الأفضل دائما عندما نريد, فالإرادة المصرية عامل أساسي في الانجاز والنجاح, ولكنها قلما تتحرك,
وإذا حدث ذلك فإنها تقوم باختراقات تصل إلي حد المعجزات, وهل ننسي العبور العظيم عام1973, وهل ننسي أن الشعب الذي بني الأهرامات وحفر قناة السويس وشيد السد العالي, هو أيضا الذي بني الأوبرا مرتين وأقام الجامعات وأنشأ المتاحف وأضاء المصابيح حوله فاهتدت بها شعوب المنطقة لتعبر نحو العصر الحديث.
خامسا: إنني أشعر بأن العلاقات المصرية العربية تمر بأزمة حقيقية لها انعكاساتها علي مسار الأحداث في المنطقة, بل وعلي الشارع المصري وجالياته المتناثرة بين دول الأشقاء العرب, وتكمن المشكلة في ظني أن كل طرف يقول جزءا من الحقيقة, ولكن لم تتمكن مصر والعرب حتي الآن من صياغة رؤية مستقبلية شاملة تقوم علي توزيع الأدوار وتؤمن بالعمل العربي المشترك وتقف علي أرضية عربية حقيقية لا تستجيب للاستقطاب الإقليمي ولا تتحول إلي جزء من أجندات خارجية,
وإذ إنني واحد من المهتمين بالعمل العربي المشترك والفكر القومي بمعناه الشامل ـ منذ صدر شبابي ـ فإنني أقرر صراحة هنا أن تردي الأوضاع في المنطقة العربية يرجع إلي سوء الفهم المتبادل بين مصر وأشقائها مع غياب الإرادة السياسية القطرية الساعية إلي الاصلاح والراغبة فيه, ولن ينصلح الحال إلا إذا اتفقنا علي حق الاختلاف وأدركنا أن توزيع الأدوار لا يستتبع بالضرورة محاولات التكفير أو التخوين أو الحرب الاعلامية,
فالعالم يتغير حولنا ولا يمكن أن نتعامل في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأسلوب ستينيات القرن الماضي, لأن الخمسين عاما الأخيرة قد قفزت بالفكر الإنساني والتكنولوجيا الحديثة بما هو أكثر وأكبر وأضخم مما حققه الإنسان في الخمسمائة عام السابقة عليها!.
سادسا: إن مصر الأزهر الشريف والكنيسة القبطية تضيف بعدا متميزا لشخصية هذه الدولة المتوسطة جغرافيا الوسطية تاريخيا, وتجعلها ذات نكهة خاصة فإينما ولي المصري وجهه في الخارج يجد أثرا للكنانة روحيا أو فكريا أو سياسيا, فكل الحركات الكبري في العالمين الإسلامي والعربي قد خرجت من مصر وعاشت تحت عباءة هذا الوطن العجوز, حتي الإسلام السياسي بتأثيره الضخم في عالم اليوم هو ابن شرعي للوطن المصري انطلق منها وتبلور فيها وخرج عنها, فضلا عن الدور التنويري والتعليمي والتثقيفي الذي دفعت به مصر ـ عبر القرون ـ إلي المنطقة حولها.
سابعا: إن الجيش المصري يمثل وعاء تاريخيا لوحدة هذا الوطن ويتقدم مؤسساته الراسخة بانصهار وصلابة وقوة, فهو لا يعرف العنصرية ولا الطائفية ولا القبلية لذلك يبقي درعا لمصر في الحروب وسندا أمام النوائب والخطوب, وليست القوات المسلحة هي المؤسسة المصرية الوحيدة ـ وإن كانت أعرقها وأقدمها وأكثرها تماسكا وانضباطا ـ ولكنها تبقي مؤسسة راسخة خرجت من صفوف الشعب المصري وارتبطت به وسوف تظل دائما ركيزة له.
إن مصر التي احتل أبناؤها في العقد الأخير وحده مناصب الأمين العام للأمم المتحدة ثم رئيس الاتحاد البرلماني الدولي ثم المدير العالم للوكالة الدولية للطاقة الذرية فضلا عن استكمالها لأربع جوائز من نوبل العالمية وبناء مترو الانفاق لأول مرة في الشرق الأوسط. إن مصر صاحبة الحضارة المعلمة والملهمة, مصر الأهرام والنيل وأبي الهول وأم كلثوم وعبد الوهاب وطه حسين والعقاد وسلامة موسي وتوفيق الحكيم وغيرهم من الرموز الباقية في ضمير الإنسانية, إنها تستحق منا وقفة شجاعة مع النفس نستعيد بها مكانة لا تنتهي وإشعاعا لا يخبو ودورا لا يغيب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/5/5/OPIN1.HTM