سمعت أن الأستاذ عباس محمود العقاد في صالونه قد التفت إلي احد الحاضرين عندما ذكر ذلك الشخص اسمه وقال له( هل كان أبوك مهندسا في الري؟) فاندهش ذلك الشخص وقال له صحيح يا أستاذنا ولكن كيف عرفت ذلك فقال له إن اسمك الأول يشير إلي منطقة قرب بحر الغزال فقد استطاع ذلك المفكر الكبير بموسوعيته الهائلة أن يكتشف انتماء من كان يتحدث معه إلي مدرسة الري المصرية, وأنا اسوق هذه القصة لكي أقول إن مصر بلد كبير وقديم عرف التقاليد المهنية والاعراف الحرفية قبل غيره من دول المنطقة ولدينا في ذلك مدارس مختلفة فمن مدرسة القضاء المصري إلي المدرسة العسكرية إلي المدرسة الدبلوماسية إلي مدرسة الري وأيضا مدرسة السكة الحديد وغيرها مما عرفه المصريون في تاريخهم الحديث ويسبق ذلك كله المدرسة الدينية متمثلة في الأزهر الشريف والكنيسة القبطية وما تركوه جميعا من بصمات قوية علي الشخصية المصرية,
أعود الآن إلي الحديث عن بعض تلك المدارس العريقة حتي نخرج قليلا من ضجيج الصراع العربي ـ الإسرائيلي وملل الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني وقلق العراق واحزان دارفور ونستعيد بعضا من ماضينا المجيد حتي نتخلص من مناخ الاحباط الذي وضعنا أنفسنا فيه وندرك أننا لسنا فقط دولة مؤسسات ولكننا قبل ذلك دولة تقاليد واعراف قد يكون بعضها قد تواري كما اختفي البعض الآخر وتراجع البعض الثالث ولكن تظل قيمة مصر متمركزة في هذه الرموز منذ أخذ سليم الأول الفاتح العثماني مئات من خيرة الحرفيين المصريين وارسل بهم إلي الأستانة ليكونوا نواة لإقامة الصناعات الدقيقة وتشييد المباني الرائعة في مستهل التاريخ العثماني وعلي الرغم من محاولات التشكيك في هذه الواقعة فإنني سمعت من بعض ثقات الاتراك أن ذلك الأمر قد حدث بالفعل وأن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من أقباط مصر أصحاب الحرف القديمة وأن السلطنة العثمانية اعادتهم إلي مصر بعد جيل واحد أو اثنين من وصولهم, وعندما نتذكر مدرسة الطب المصرية بدءا من كلوت بك مرورا
بــ علي باشا إبراهيم ونجيب باشا محفوظ وعبدالوهاب باشا مورو وصولا إلي جيل إبراهيم بدران ومجدي يعقوب وغيرهم من اساطين الطب والجراحة فإننا ندرك أن لدينا أعرق مدرسة طب في المنطقة وأنا أعني بالمناسبة بكلمة المدرسةAschoolofthought أي مجموعة التقاليد الفكرية التي حكمت تلك المؤسسة التاريخية وجعلت لها رؤية ذاتية وضعتها علي خريطة الوطن لكي تبقي وتستمر علامات مضيئة تنير لنا الطريق الذي نكاد ننحرف عنه, وإذا عدنا إلي مدرسة الري المصرية فإننا نتذكر مفردات معينة, فمهندسو الري القدامي كانوا يعرفون استراحات الري علي امتداد مجري النيل في السودان ومصر ويعرفون السدود والقناطر والتعلية الأولي والثانية لخزان أسوان, كما عاشوا تجربة السد العالي وتمرسوا من خلال الفيضانات السنوية قبل بناء السد وتجولوا في انحاء البلاد,
وظهرت اسماء لوزراء الأشغال العمومية والري والموارد المائية نذكر منهم عثمان محرم باشا وأحمد عبده الشرباصي وعبدالخالق الشناوي وسماحة وراضي الأول والثاني وأبوزيد وغيرهم من تلك الكوكبة التي عاشت مع مياه النيل وعشقت النهر من المنبع إلي المصب وظلت لها تقاليدها المرعية واعرافها الموروثة التي أرجو لها الا تندثر أبدا في
زحام التغييرات والإجراءات والقرارات, أما مدرسة السكة الحديدية فقد بدأت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما بدأ خط السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية ليكون بذلك ثاني خط سكة حديد في العالم كله حيث استطاع عمال الدريسة المصريون أن يشكلوا مع مهندسيهم ـ أجانب ومصريين ـ مدرسة مهنية وحرفية لها تاريخ مصري مشهود حتي أصبحت ورش السكة الحديدية تعبيرا عن الدأب المصري والتواصل الفرعوني, وقس علي هذا عشرات النماذج والأمثلة لمدارس مصرية لايزال بعضها مزدهرا بينما يعاني البعض الآخر اختناقات وضغوطا دفعت بالفساد لينخر في هيكلها كالسوس المدمر, ونحن نطالب هنا بضرورة حماية مدارسنا الفكرية والمهنية والحرفية من عوامل التخريب وعبث من لايدركون أهمية ذلك في تكوين الدولة المصرية وتقنين اطارها التاريخي وتنظير هيكلها الوطني, وأسمح لنفسي هنا بأن أبدي بعض الملاحظات:
أولا: إنني ممن يؤمنون بأن الشكل جزء من المضمون والذين يتحدثون احيانا باستخفاف عن بعض الأمور الشكلية هم واهمون فروب المحاماة وارتداؤه مسألة تتصل باحترام المهنة وهيبة القضاء الواقف أمام شموخ القضاء الجالس, كذلك فإن الروب الجامعي خصوصا في بعض الكليات النظرية وفي مقدمتها كليات الحقوق إلي جانب بعض المناسبات العلمية وأهمها مناقشة الرسائل العليا هي أمور واجبة تعطي للجامعة مكانتها وتؤكد استمرارية دورها وترفع درجة المصداقية فيها.
ثانيا: لماذا نذهب بعيدا فالمؤسسة العسكرية خير شاهد علي ما نقول فالجيش المصري الذي نعتز به دائما ـ وسوف نظل دوما ـ قد نشأ من مجموعة تقاليد راسخة لايخرج عنها شأن الجيوش الكبري في العالم فقواعد الأقدمية والانضباط والتدريب واحترام المسائل الشكلية والجوهرية معا قد جعلت منه مؤسسة متماسكة لاتتأثر بتراجع المجتمع احيانا أو بالتدهور في بعض جوانب الحياة العامة احيانا أخري لأنه جيش ورث تقاليده عبر ممارسات إقليمية مشهودة وحارب منذ العصر الفرعوني حتي الآن مرورا بحطين وعين جالوت وحرب القرم والمكسيك وصولا إلي نصر أكتوبر العظيم وجيش له هذه التقاليد إنما يشير إلي مدرسة عسكرية مصرية تأثرت بها المنطقة في الحرب والسلم علي السواء.
ثالثا: إن القيمة الحقيقية للدور التنويري في مصر إنما تكمن في سياق هذه السطور وما نشير اليه من أمور قد لاتبدو لافتة لأصحاب النظرة السطحية المتعجلة ولكنها تبدو ذات أهمية كبري أمام من يدرسون الشخصية المصرية وينقبون في عناصر الاشعاع الصادرة من الكنانة إلي المنطقة العربية والإفريقية, بل إن الدولة المصرية الحديثة التي صحت علي مدافع نابليون في نهاية القرن الثامن عشر لكي تخرج من عباءة الفكر المملوكي ثم يتجه بها محمد علي للتمرد علي سطوة الحكم العثماني, إن مصر التي نتحدث عنها قد وضعت تاريخيا اللبنات الاساسية في تكوين الدولة العصرية النموذج في غرب آسيا وشمال إفريقيا ودول حوض النيل ونشرت جناحيها في العالمين العربي والإسلامي علي نحو لاتزال آثاره باقية في عواصم دول كثيرة نشعر فيها بعمليات النقل التاريخي من التجربة المصرية.
رابعا: إن التعليم المصري الذي ارتبط بمصر الحديثة بدءا من رفاعة طهطاوي وعلي مبارك مرورا بدانلوب وسعد زغلول وأحمد نجيب الهلالي وطه حسين وإسماعيل القباني وغيرهم من أصحاب الرؤي ذات الاسهام الفعال في مسيرة التعليم المصري الذي أضاء المنطقة كلها ومازلنا نعيش حتي الآن علي بقايا رصيده في عدد من الدول العربية والإفريقية حيث أجيال من رجالاتها المخضرمين يستعد معظهم للرحيل عن عالمنا ـ بمنطق العمر ـ بعد تأثيرهم المشهود في سياسات دولهم مع تواصل وارتباط دائمين بالوطن الثاني مصر الذي درسوا فيه وتعلموا في مدارسه وجامعاته.
خامسا: إن الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والاتحادات العمالية والجمعيات الأهلية بدءا من الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية التوفيق القبطية منذ بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر هي كلها رموز وأدوات لدور مصري فاعل شد المنطقة اليه واعطي للدور المصري مكوناته التي تحدث عنها مؤرخ الجغرافيا الراحل العظيم جمال حمدان وهي التي صنعت في مجملها مفهوم الدولة النموذج وبلورت دور الشقيقة الكبري.
هذه نقاط سريعة في موضوع حيوي يبدد ظلام الإحباط الذي يحاول أن يجتاح جوهر الشعب المصري وأن ينال من ثقته في ذاته ونحن أمام لحظة فارقة في تاريخه الحديث وفي ظل مناخ إقليمي خانق وبيئة دولية مزدوجة المعايير حيث يبقي علينا أن ننقب في تاريخنا وأن نبحث في تراثنا وأن نعترف بأن مصر الحديثة قد امتلكت كل أدوات التغيير والتطوير بل إن الأسرة العلوية تحتاج منا إلي تقييم موضوعي يقدم عباس حليم كرائد للحركة العمالية وعمر طوسون كرمز في الحركة الوطنية ويوسف كمال كعاشق للفنون الجميلة, كما أن جامعة القاهرة والمتاحف الكبري والجمعيات الملكية والمؤسسات الباقية هي اسهامات مصرية في ظل حكم تلك الأسرة بدءا من المؤسس الكبير محمد علي مرورا بالمتحضر المفتري عليه إسماعيل باشا وصولا إلي الملك فاروق ذاته الذي كان وطنيا مصريا رغم انه كان فاسدا شخصيا!.. إنني باختصار أريد أن أوقظ في اعماقنا جذوة لاتخبو وشعلة لاتنطفيء لان لدينا مدارس مصرية مستمرة ذات تراث وتقاليد باقية!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/4/7/OPIN1.HTM