يطوف بي خاطر بين حين وآخر عندما أفكر في العلاقات المصرية ـ العربية, مؤداه أن تلك العلاقة ليست بالبساطة التي نراها علي السطح, فلهذا الموضوع آفاق وأعماق وملابسات وحساسيات, قد يكون من الملائم بل من الواجب مناقشتها بشكل علني وفتح حوار مشترك حولها, والذي دفعني إلي ذلك حاليا هو تلك الاتهامات المباشرة أو غير المباشرة التي استهدفت السياسة المصرية في موضوع استمرار الحصار علي غزة, ثم العدوان الاسرائيلي الوحشي والإجرامي علي سكانها المدنيين, وهم يواجهون أشق ظروف الحياة وأصعب أحوال المعيشة,
وأنا أتساءل كثيرا كعربي من مصر ارتبط بالفكر القومي علي امتداد الخمسين عاما الأخيرة وتفتحت عيناه علي البعد ال5عروبي لثورة يوليو1952 وتجربة الوحدة بين مصر وسورية وثورة اليمن واستقلال الجزائر, لقد كانت تلك سنوات الحلم القومي في العصر الناصري الذي لهثت فيه مصر وراء عبدالناصر زعيما قوميا وقائدا عربيا أعطته الجماهير ـ من المحيط إلي الخليج ـ من حبها وتأييدها دعما لا نظير له, إلي أن جاءت هزيمة1967 لتجهض التجربة وتقوض أركان النظام العربي كله, فخرجت مصر من المحنة لتواجه ظروفا اقتصادية صعبة ومشكلة سكانية متفاقمة وسلسلة من التحولات والأزمات لعل أكثرها تأثيرا وأشدها عمقا في طبيعة العلاقات المصرية ـ العربية ذلك التوجه السياسي الذي قاد مصر إليه الرئيس الراحل أنور السادات, بالتوقيع علي اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر, و اسرائيل ولعلي هنا أبسط عددا من الملاحظات المتصلة بالعلاقات المصرية ـ العربية من حيث مشكلاتها وهمومها, بل وحساسياتها وأجمل ذلك فيما يلي:
أولا: إذا كنا نقول إن مصر جزء من أمتها العربية بالتاربخ الحضاري والتراث الثقافي, إلا اننا لا ننكر خصوصيتها الواضحة, وفرادة تكوينها المنصهر عبر القرون, فهي دولة ملتقي تعاقبت عليها وتراكمت فوق ترابها مواريث مصر القديمة ومصر المسيحية ومصر الاسلامية, وامتزجت عبر القرون بالإغريق والرومان والعرب, وتداخلت مع حضارات البحر المتوسط وثقافات الشرق الأوسط, فأصبحت بوتقة فريدة ذات ارتباط خاص بالديانات الإبراهيمية الثلاث, ويكفي أن مدينة واحدة منها هي الأقصر تحتوي ما يقرب من ربع التراث الانساني كله بشهادة المنظمة الدولية للثقافة والعلوم اليونسكو, وهي مصر التي ورد اسمها في الذكر الحكيم خمس مرات صراحة, وعدة مرات أخري بالاشارة, كما تحدث عنها العهدان القديم والجديد بلغة الاحترام والتبريك والمحبة, ولعل هذه السبيكة المعقدة هي التي أوجدت الحساسية الكامنة لدي بعض الأقطار العربية تجاه مصر التي فرضت عليها معطيات التاريخ والجغرافيا أن تكون قائدة في الحرب ورائدة في السلام, ولقد ظل المشروع المصري صاحب بصمات مؤثرة علي المنطقة كلها سواء كان ذلك المشروع توسعيا في عصر محمد علي أو قوميا في عهد جمال عبدالناصر.
ثانيا: لعل البعض لا يتذكر أن الحملة العربية علي مصر في العقود الأخيرة قد بدأت مع حكم الرئيس جمال عبدالناصر بعد اشتباكه القوي وانخراطه الشديد في القضايا القومية, حتي إن الرجل رحل عن عالمنا شهيدا للقضية الفلسطينية في وقت تطاولت عليه الأقلام والأصوات بعد قبول مبادرة روجرز, التي أرادها هو هدنة لبناء حائط الصواريخ علي امتداد خط قناة السويس, ويكفي أن نتذكر هنا أن الرجل بقامته القومية العالية قد أغلق اذاعة فلسطين من القاهرة بعد أن شنت عليه هجوما لا مبرر له, ثم كانت الحملة الكبري علي مصر في عصر الرئيس السادات بعد زيارته الشهيرة للقدس, ودفعت فيها مصر ثمنا غاليا من القطيعة الدبلوماسية والمطاردة في جميع المحافل الدولية, وها هي الموجة الثالثة من الحملات العربية علي مصر تتصاعد بشكل غير مسبوق وتحاول أن تدق إسفينا بين الشعب والحكم,
وتلك لغة معروفة ولكنها لا تصلح في الخطاب السياسي والاعلامي الموجه إلي مصر لأن الكنانة تعيش علي نوع من التوحد بين السلطة والجماهير أمام الغير, وقد تكون المشكلات بينهما قائمة في الداخل, ولكن كلمتهما تتوحد أمام الخارج, ولعل ذلك يفسر رفض معظم قوي المعارضة للحملة الجديدة علي مصر حول محرقة غزة ومذبحة الشعب الفلسطيني فيها.
ثالثا: إن جزءا كبيرا من الانتقادات الموجهة لمصر تاريخيا تأتي من ارتفاع سقف التوقعات العربية منها والاحساس بقدرتها علي تحمل النقد وامتصاص الغضب, فضلا عن أن الكبير يتحمل دائما المسئولية الأكبر, ولا يفكر الأشقاء كثيرا في مشكلاته الداخلية وظروفه السياسية وأوضاعه الاقتصادية, والتطورات الدولية والتحولات الإقليمية التي تصب جميعها في خانة القرار المصري وملابساته وتداعياته, ولو أخذنا محنة غزة الأخيرة كمثال فسوف نكتشف أن الانتقادات الموجهة إلي مصر هي نتيجة لأسباب خارجة عن سيطرتها, فمصر لم تأت بالكيان الاسرائيلي للمنطقة, ولم تقسم الصف الفلسطيني ولم تضرب وحدته الوطنية, ولم تؤجج الصراع الصامت علي الساحة العربية حاليا, كما أنها لم تكن طرفا في ظاهرة الاستقطاب الإقليمي الذي مارسته بعد دول المنطقة في مقدمتها الدولة الفارسية.
رابعا: إذا كان الحديث العربي الناقد يكرر دائما أن مصر قد خرجت من المعادلة العسكرية ـ ولو مرحليا ـ باتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام, إلا أنها ظلت هي الجزء الفاعل في المعادلة السياسية بالمنطقة والسند الأول للشعب الفلسطيني في جميع الظروف. ولكن يجب ألا يغيب عن الذهن أن مصر مستهدفة قبل غيرها, وأن هناك أطماعا اسرائيلية في بعض مناطق سيناء, وأن الدولة العبرية تسعي إلي تصدير مشكلة غزة بالكامل إلي الوطن المصري الذي فيه ما يكفيه, وللأسف فإن قيادات وفصائل فلسطينية قد أكلت الطعم وانزلقت ـ بوعي أو بغير وعي ـ وراء هذا المخطط المشبوه, وتحت شعارات ظاهرها قومي وباطنها تآمري, ونسي الجميع أن مصر هي بلد التضحيات والدولة التي لا تخطط في الظلام, ولا تطعن من الخلف ولا تجيد أسلوب الاتصالات السرية.
خامسا: إن الغريب والعجيب فيمن ينتقدون مصر ـ وقد تكون لنا ملاحظات علي بعض مواقفها ـ هم أنفسهم الذين يحتاجون النقد, ففيهم عوار ظاهر وانصياع لاستقطاب غير عربي, وهم جزء من أجندة تهدم ولا تبني, لا تدرك الحقيقة ولا تفهم ما يدور حوله, وأنا أحذر هنا من أن تزايد نغمة الانتقاد للدور المصري بدءا من المظاهرات حول سفاراتها وصولا إلي صياح الفضائيات مرورا بقاموس الاتهامات غير الدقيقة, لن يؤدي إلا إلي نتيجة واحدة وهي تكريس تيار العزلة الكامن في بعض جوانب الشخصية المصرية التي تري أنها تتحمل العبء الأكبر لضريبة العروبة وتدفع الثمن الغالي في كل الظروف, ونسي هؤلاء وأولئك أن مصر الحكم تتحمل المسئولية الأولي في التصدي لمأساة غزة, وأن مصر الشعب هي صاحبة الضمير الحي الذي لا ينام أمام الجريمة المروعة التي ترتكبها اسرائيل في حق الأطفال الأبرياء والمدنيين العزل الذين خنقهم الحصار, ثم جاءت الطائرات العسكرية لتقصف وتهدم وتقتل ويكتفي العرب بالشجب والتظاهر وتوجيه اللوم للشقيقة الكبري, وكأنهم يغسلون أيديهم من جريمة الصمت علي الجرائم والمجازر فوق الأرض العربية.
إنه قدر مصر أن تخوض الحروب وتدفع بالمبادرات وتمتص الغضب, وتتحمل انتقادات ذوي القربي, إنها مصر التي أتذكر الآن دورها عبر القرون فيتملكني الحزن والغضب, ولكن يبقي لدي شعاع من ضوء شاحب لا يختفي أبدا وقد يتوهج يوما.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/1/13/OPIN1.HTM