تربطني بالثقافة الفرنسية علاقة غريبة فقد كنت أود دائما أن أكون ممن يتحدثون الفرنسية بطلاقة وممن يشار إليهم بالقول هذا فرانكفوني مثلما كنت أتمني أن ادرس القانون وأن أكون محاميا بدلا من ادرس الاقتصاد والعلوم السياسية لكي أصبح دبلوماسيا, ولكن كلتا الأمنيتين لم تتحققا إذ ليس كل ما يريده المرء يدركه! وقد حاولت تعويض هذا النقص باهتمام شديد بفروع القانون العام والخاص وحفاوة بالغة تجاه العلاقات والمنظمات الدوليين, أما الثقافة الفرنسية فقد استغرقت كثيرا في متابعتها حتي أصبحت بعض المؤسسات الفرنسية تدعوني للحديث عن الوجود الفرنسي في الشرق وتاريخ الحملة الفرنسية علي مصر وآثار نابليون في أوروبا المعاصرة, وأيقنت فضل الفرنسيين ثقافيا علي كثير من الدول التي احتلوها أو عبروا عليها, وسوف يبقي كتاب وصف مصر برهانا تاريخيا علي ما نقول, وذلك برغم اعترافنا بقسوة الاستعمار الفرنسي وجرائمه, وعندما احتدم جدل منذ سنوات قليلة في ذكري المئوية الثانية للحملة الفرنسية بين رأيين متناقضين, يتحمس الأول لها ويري فيها بداية الصحوة وميلاد الدولة المصرية الحديثة, حيث يتناول دعاة هذا الرأي الحملة من منظور ثقافي بحت, أما أصحاب ا
لرأي الثاني فهم يرون في الحملة الفرنسية مجرد غزو عسكري حاول به بونابرت أن يؤسس امبراطوريته وراء البحار وان يصنع ركيزة استعمارية ينطلق منها لغزو دول المشرق العربي وقد كتب المفكر الكبير د.فؤاد زكريا مقالا مهما شارك به في ذلك الجدل تحت عنوان دهاء التاريخ وعقد مقارنة بين الحملة الفرنسية لنابليون علي مصر والحملة المصرية لعبد الناصر علي الديمن ولكننا لاننكر في النهاية أن الفرنسيين يهتمون بدورهم الثقافي عالميا, بل إني أتذكر أنه بعد غزو أفغانستان واقصاء حركة طالبان سعت الدول المختلفة لإقامة سفارات في كابول بينما حرص الفرنسيون فقط علي إعادة فتح مدرسة الليسيه! فهم معنيون بالشأن الثقافي قبل غيره وتلك سمة يتميزون بها ويتفوقون احيانا بسببها ومازلت اعتقد أن عرب شمال إفريقيا ـ باستثناء ليبيا ـ يتمتعون بميزة التواصل مع أوروبا والغرب ليس فقط بسبب القرب الجغرافي ولكن أيضا بسبب حيازتهم للغة الفرنسية التي يتحدثون بها كلغة ثانية بل كلغة أولي احيانا! ولقد زارني السفير الفرنسي في القاهرة أخيرا ودار بيننا حديث طويل وممتع امتزجت فيه الثقافة بالسياسة والاقتصاد بالاجتماع وعرجنا أثناءه علي خصوصية العلاقة المصرية ـ الفرنسية وكيف
أن ثلاث سنوات فقط من الوجود الفرنسي أثناء حملة تابليون قد تركت بصمات قوية في التعليم الفرنسي بمدارسه العريقة وفي المجموعة المدنية المصرية بالدراسات القانونية والتي تأثرت بالكود النابليوني حتي أن الثقافة الفرنسية مازالت مرتبطة في العقل المصري بالارستقراطية والرقي بل واحيانا بالثراء المادي أيضا, وقد سألت السفير الفرنسي المثقف والذي خدم في مصر دبلوماسيا صغيرا من قبل ثم عاد سفيرا لبلاده في عاصمة خدم فيها منذ سنوات طويلة فأصبح عليه دائما أن يتذكر وان يقارن وان يبحث عن اصدقائه القدامي, لقد قلت للسفير في لقائنا ذلك انني اريد أن اعرف منه اختياره المفضل لأكبر شخصية في تاريخ فرنسا الحديث لأنني متأرجح بين نابليون وشارل ديجول, فرد علي السفير بشكل قاطع أنه يعطي صوته مباشرة للجنرال ديجول محرر فرنسا من النازي ومنقذها بعد ذلك من ورطتها في الجزائر وقد اضفت اليه أني احمل تقديرا خاصا أيضا للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران لانني رأيته عن قرب واستمعت اليه عدة مرات وبهرتني رصانته وعمق رؤيته وعشقه لمصر وقد امتد حديثنا ـ السفير الفرنسي وأنا ـ إلي موضوع الساعة وهو الخاص بفرص مصر في الفوز بمنصب مدير عام اليونسكو الذي رشحت له
الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري حتي لاتخلو الساحة العالمية من احتلال مصر لمنصب دولي كبير, إذا يغادر د. محمد البرادعي موقعه المرموق مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية وربما يدخل الي الساحة الدولية عندئذ الفنان فاروق حسني مديرا عاما لليونسكو ولقد تمحور حديثنا في موضوع اليونسكو حول النقاط التالية:
أولا: يري السفير الفرنسي ان بلاده داعمة للمرشح المصري وان فاروق حسني هو المرشح الأوفر حظا في الوصول إلي ذلك المنصب بين بقية المرشحين, وقد كان الوزير فاروق حسني أثناء حديثنا يزور العاصمة الصينية كجزء من حملته الانتخابية الدولية, فقال السفير الفرنسي أنه يتفاءل بتأييد الصين لان أي مرشح تدعمه يكون هو الفائز دائما!
ثانيا: اشرت للسفير إلي أن علاقتي قديمة وطيبة بالسيدة بنيتا فالنر المفوضة الأوروبية حاليا للشئون الخارجية والوزيرة السابقة في بلدها النمسا والتي كانت مرشحة لرئاسة الجمهورية النمساوية أمام رئيس البرلمان السيد فيشر وقد خسرت كرسي الرئاسة للدولة النمساوية بنسبة2% فقط وقد قال لي السفير ان فرصها ليست كبيرة لانها ترشحت متأخرة ولم تقم بالتشاور الكافي مع المجموعة الأوروبية التي قد لاتكون داعمة لها في ظل هذه الظروف أما بقية المرشحين فهم أضعف من أن يكونوا منافسين اقوياء لمرشح مصر.
ثالثا: سألت السفير عن السبب في عدم حماس وزير خارجية فرنسا كوشنير للمرشح المصري فقال انه لايعتقد ذلك وان الموقف الفرنسي يتجه في معظمه إلي الايجابية في دعم المرشح المصري وعندما أبديت له مخاوفي من أن التصويت سري لمنصب المدير العام لليونسكو بما قد يسمح بالتآمر علي احد المرشحين وتغليب الموقف الشخصي علي حساب إرادة الدولة التي ينتمي اليها مندوبها في عملية الانتخابات, استبعد السفير امكانية حدوث ذلك.
رابعا: تحدثت عن أهمية حيازة مصر لهذا المنصب الرفيع لأن مصر بلد عريق وهي صاحبة الحضارة الأم وملهمة ثقافات البحر المتوسط والمنطقة العربية كلها واضفت أن أغلي سلعة مصرية هي السلعة الثقافية عبر التاريخ, فمصر بلد منتج للثقافة بالدرجة الأولي وهي أحق بهذا المنصب لاسباب عديدة.
خامسا: لقد كان لمصر تجربة سابقة في الانتخابات الماضية عندما تقدم المصري المتألق د. إسماعيل سراج الدين لهذا المنصب ونافسه عليه الوزير الشاعر غازي القصيبي من المملكة العربية السعودية وهو ما أدي إلي تفتيت الاصوات وحصول المرشح الياباني ـ الرئيس الحالي لليونسكو ـ علي المنصب, وقد آن الأوان لكي تحوز مصر بلد التراث والحضارة هذا المنصب خصوصا انها واحدة من أقدم بلاد الدنيا إن لم تكن اقدمها علي الإطلاق.
سادسا: تطرق الحديث إلي المحاولات الإسرائيلية التي كانت مدعومة أمريكيا لتعطيل وصول المرشح المصري لمنصب المدير العام لليونسكو استنادا لاسباب واهية ومفتعلة, وكان رأي السفير الفرنسي أن تدخل الرئيس مبارك شخصيا قد حسم هذا الأمر إلي حد كبير وأزاح عقبات أمام السيد فاروق حسني للوصول إلي هذا المنصب, وأضاف السفير أن معلوماته تؤكد أن اسبانيا وإيطاليا متحمستان للمرشح المصري وهما دولتان مهمتان داخل أروقة اليونسكو.
سابعا: لقد اتفق حديثنا المشترك علي صعوبة حصول أي مرشح علي المنصب من أول جولة وان كانت التوقعات تشير إلي حصول السيد فاروق حسني علي أعلي الاصوات ولكن الفيصل في الأمر هو كفاية تلك الاصوات لفوز المرشح من عدمه, وهو ما يؤدي إلي تساقط عدد من المرشحين خلال الجولات المختلفة لحين الوصول إلي الجولة الختامية, وقد كانت لي تجربة سابقة في التصويت عندما كنت مندوبا مقيما لمصر لدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية عند اختيار د. محمد البرادعي لمنصبه الرفيع الذي شغله بتميز واقتدار.
كانت تلك هي خلاصة حوار دار بيني وبين السفير الفرنسي أثناء زيارته لي قبل مغادرته إلي بلاده ليقضي هناك بضعة أسابيع سوف تجري فيها الأنهار وتموج البحار ويدور الليل والنهار وبعدها يأتي الخبر اليقين!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/9/8/OPIN1.HTM