التقي الزمان العصري بالإنسان المصري وأخذا ينتقلان من رحاب الجامع الأزهر الشريف وصولا إلي الكاتدرائية المرقسية للأقباط الأرثوذكس وهما يزرعان الطريق بينهما ذهابا وإيابا في سيارة عتيقة أطلقا عليها مركبة الوحدة الوطنية حيث ابتدر الزمان الإنسان قائلا( لقد كثرت في السنوات الأخيرة أحداث التحرش الطائفي, وأصبح أمرا تقليديا أن يخرج المصلون من أحد المساجد في قرية نائية للاحتكاك بإخوانهم المسيحيين, بدعوي استخدام أحد منازلهم كنيسة بديلة لإقامة صلواتهم, أو قيام فتاة مسيحية بالهرب مع شاب مسلم, وهو أمر يخضع للعواطف الإنسانية, ولكنه يتحول إلي مشكلة دينية وفتنة طائفية, وقد آن الأوان لكي تدركوا أن هذه ليست روح العصر وأن المواطنة هي البديل الحقيقي للانقسامات الناجمة عن اختلاف الدين في عصر يجب أن نردد فيه جميعا أن الدين لله والوطن للجميع.
ولعل أحداث1919 خير شاهد علي ذلك, لهذا فنحن نشعر بالدهشة لتكرار الصدامات ذات الطابع الطائفي في بلد اكتشف التوحيد قبل نزول الديانات الإبراهيمية الثلاث, فرد عليه الإنسان واجما وقال:( معك حق, إن الوطن الواحد يقتضي الذوبان الكامل في كيانه, والبعد عن التطرف الديني أو التشدد العقائدي أو الهوس الطائفي, وأريد أن أقول لك إن المشكلة متبادلة بين الطرفين, وأذكر أنني كنت في سرادق عزاء ذات يوم وفوجئت برجل وقور جاوز الستين من عمره يسعي إلي الجلوس بجانبي بشكل متعمد, ثم بادرني بقوله إنه يريد أن يتحدث معي في أمر خاص ثم بدأ يحكي أمامي ودموعه تغالبه أنه كان نائبا لرئيس أحد البنوك المصرية, وأن لديه ابنة وحيدة عملت في إحدي الشركات الأجنبية في القاهرة, ثم وقعت في غرام زميلها القبطي وبعد شهور قليلة هربت معه إلي الخارج, وظل الأب والأم ينتقلان بين أقسام الشرطة وأروقة القضاء يحدثان النجوم ويتضرعان إلي الله, إلي أن وصلتهم رسالة من ابنتهما تقول فيها أنها تقيم في دولة قبرص مع زوجها الذي أنجبت منه طفلة بعد أن ارتدت عن الإسلام واعتنقت المسيحية ثم يضيف وهو يبكي أن كل ما أريده أنا وأمها أن نراها ولو لمرة واحدة قبل أن
نرحل عن هذا العالم! وهذه المأساة الإنسانية يقابلها علي الجانب الآخر عشرات الحالات من خطف الفتيات القاصرات من بعض الأسر المسيحية ويواجه ذووهم ذات المشاعر الحزينة التي أصابت ذلك المسلم الطيب الذي هربت ابنته مع زوج مسيحي إلي خارج البلاد, وهذه أمور مزعجة للغاية وتدعو للقلق لأن معناها أن المناخ غير صحي والأجواء غير مواتية وسحب التعصب وازدراء الأديان واستخدام الانتقال بينها لأغراض ذاتية تمثل كلها مخاطر تتهدد مسيرة الوطن واستقرار مستقبله).
هنا التقط الزمان خيط الحديث وبدأ يقول:( إن التعليم في بلادكم مسئول عن جزء من هذه المشكلة, فعلي الرغم من اعترافنا بعدد من الإيجابيات, مثل اعتبار السابع من يناير عطلة رسمية وهو الذي يوافق عيد الميلاد لدي الأقباط الأرثوذكس الذين يشكلون الغالبية الكبيرة من المسيحيين المصريين, فضلا عن جذورهم الوطنية الصميمة والضاربة في أعماق التاريخ, آخذين في الاعتبار أن المسلمين المصريين هم أشقاء لهم, وليسوا وافدين علي أرض الكنانة وهنا لمعت عينا الزمان قائلا( إن عليكم أن تدركوا أيضا أن البيئة السياسية والمناخ الاجتماعي والثقافي مسئولان عما يمكن توفيره لضمان الخروج من هذه المواجهات غير المبررة, والتي عفا عليها الزمن, فالتعليم والثقافة والإعلام ودور المؤسسات الدينية علي الجانبين هي أمور مطلوبة للإسهام في علاج جزء كبير من المشكلة, كذلك فإن الخطاب الديني الزاعق من الطرفين يتحمل هو الآخر جزءا من مسئولية ما يحدث أحيانا,
كما يجب الا تدركوا أن المواطنة تسبق أي انتماء آخر, لذلك فإن المسيحي حين يغضب لسبب دنيوي يجب ألا يهرع إلي الكنيسة, كذلك المسلم عندما يكون أمام محنة سياسية الا يجب أن يلوذ بالأزهر, بل إن الواجب عليهما ـ مسلمين ومسيحيين ـ اللجوء إلي مبني مجلس الشعب حيث السلطة التشريعية أو مبني دار القضاء العالي حيث السلطة القضائية, أو مقر رئاسة الجمهورية حيث قمة السلطة التنفيذية فالدولة المصرية دولة مدنية قديمة يعتصم فيها الفرد بفكرة الدولة ولا يحتمي بسطوة الدين, كذلك فإن أسلوبكم الاحتفالي لامتصاص الغضب الطائفي, والذي يقوم علي لقاءات عاطفية وخطب حماسية وقبلات متبادلة بين الشيوخ والقساوسة, وصولا إلي موائد الرحمن هي أساليب ساذجة تجاوزتها حركة التاريخ, ولم تعد تقدم أو تؤخر بل أصبحت دليلا علي السطحية, وتجسيدا للحلول الترقيعية, فالأمور تحتاج إلي حلول جذرية,
تبدأ من أهمية صدور قانون ينظم إنشاء دور العبادة للطرفين, وصولا إلي حيازة الأقلية ـ بالمعني العددي فقط للكلمة ـ لمواقع سياسية, بل وسيادية, وأيضا أمنية وقضائية تتناسب مع حجمها السكاني ودورها التاريخي), عندئذ التفت الإنسان إلي الزمان قائلا:( إننا نتعلم منك الحكمة ونستمد منك المعرفة ونؤمن بأن الماضي هو درس الحاضر ورؤية المستقبل, وأود أن تطمئن إلي أن الصورة تتحسن في السنوات الأخيرة, حيث يتزايد وعي الناس وترتقي أفكارهم ويبتعدون عن الصغائر ويتجهون إلي المصلحة المشتركة للوطن والأمن القومي له وهو الذي يجمع ولا يفرق ويربط ولا يمزق, ولعلك تابعت معنا التعديلات الدستورية الأخيرة في مصر حيث تصدر مفهوم المواطنة المادة الأولي من دستور البلاد, و المواطنة كلمة شاملة توحي بالتكافؤ بين من يختلفون في الديانات والعقائد والانتماءات والأفكار, كذلك فإنها تشير أيضا ـ ولو من بعيد ـ لقضية العدالة الاجتماعية, واحترام مبدأ تكافؤ الفرص, والاعتراف بالمساواة السياسية, وتماثل المراكز القانونية لأبناء الوطن الواحد).
عندئذ ابتسم الزمان ابتسامة عريضة, وقال للإنسان:( ما أكثر ما لديكم من مشكلات وحساسيات, وسوف نبحث معا في لقائنا المقبل أمام مبني وزارة الداخلية ما توحي به صفحة الحوادث في مصر, وما تشير إليه من نوعية الجرائم غير المسبوقة في تاريخكم) ونظر كل منهما إلي الآخر وتواعدا علي اللقاء للغوص في أعماق الشخصية المصرية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2008/1/8/WRIT1.HTM