واصل الزمان والإنسان حوارهما بعد أن انتقلا من' هضبة الأهرام' إلي' ساحة الحسين' أمام جامع الأزهر الشريف ليستأنفا حديثهما حول هموم الوطن وشجون مصر وبادر الزمان قائلا( إنكم تتحدثون كثيرا عن الدولة الدينية علي الرغم من أنها كيان وهمي لم يكن له وجود حقيقي في تاريخكم كله, نعم لقد كان' الفرعون' ابنا لله أحيانا ورئيسا لسدنة المعبد أحيانا أخري ولكنه ظل حاكما يستند إلي قوته ولا يخاصم حاضره ولا يصادر علي مستقبله, ولا نظن أن الدولة الدينية كان لها وجود في ظل الخلافة الإسلامية ـ بعد الخلفاء الراشدين ـ
حيث انتقلتم من مرحلة الشوري إلي مرحلة الملك, من مرحلة' سقيفة بني ساعدة' عندما بايع المسلمون' أبا بكر' خليفة لرسول الله بعد رحيله إلي مرحلة طلب فيها' معاوية' البيعة لابنه' يزيد' علي حياة عينه فاكتشفنا أن حكم دولة الخلافة هو حكم ملكي وراثي تحت مسميات دينية شكلية لا تصل إلي جوهر السلطة وأعمدة الحكم) عندئذ انبري الإنسان يشرح للزمان بعض مخاوفه قائلا( إن الحكم بالنص المقدس أمر خطير لأنه لا يسمح بالحوار ويغلق باب المناقشة ويستخدم الدين بمكانته السامية وقيمته العالية
لكي يكون طرفا في صراع دنيوي ينزل به من عليائه إلي واقع الحياة اليومية بكل ما فيها من صراعات وتناقضات بل وأكاذيب, بينما الأديان في حقيقتها مخزون حضاري يلهم أتباعها بأسباب الفضيلة ويبعدهم عن مواطن الزلل, فالأديان ثورة اجتماعية وأخلاقية ترقي بالفرد والجماعة ولكنها ليست بالضرورة طرفا في لعبة الحكم, وإذا تحدثنا عن حزب ديني فإننا نقع في نفس الخطأ التاريخي ونعطي حصانة روحية لمجموعة من البشر تستأثر بمظلة الإسلام وتحتكر الإيمان,
فهم المؤمنون وحدهم وهم رجال الله وما عداهم يمثلون أحزاب الشيطان, وقد يقول قائل ولم كل هذا الفزع؟ ففي الغرب أحزاب ديمقراطية مسيحية مشروعة, وهنا يكون الرد سريعا فتلك أحزاب تحمل اسم الدين ولكنها لا تتخذ قراراتها من منطلق ديني بالإضافة إلي أن ثراء الشريعة الإسلامية وتعدد مصادر الفقه فيها هي أمور تغري باستخدام سلطان النص عند كل خلاف في الرأي, وفي مواجهة كل من يعارض فكر ذلك النوع من الأحزاب, فإذا كنا الآن نقف في ساحة' سيد الشهداء'
فإننا نرفض أن يهرع أقباط مصر إلي' الكاتدرائية المرقسية' في الأزمات أو يلوذ مسلمو مصر' بصحن الأزهر' في المظاهرات لأن الدولة المدنية, التي وضع لبنتها الأولي' محمد علي' بعد الحملة الفرنسية تدعو المصريين إلي توجيه شكواهم, إما إلي مقر رئيس الدولة في قصر الحكم باعتباره رئيس السلطة التنفيذية أيضا أو أمام دار القضاء العالي باعتبارها مقر السلطة القضائية, أو أمام مجلس الشعب باعتباره مقر السلطة التشريعية,
فتلك هي مواقع الاحتجاج السلمي في الدولة المدنية حيث تلعب' المواطنة' دورا حاسما في تجميع الناس والتأليف بين توجهاتهم المختلفة) عندئذ سحب الزمان نفسا عميقا وقال( إنكم في مصر مرتبطون بجذور التجربة عندما ولدت الدولة القومية من رحم التجمعات الدينية ولعلكم تتذكرون عصر' عبد الناصر' عندما كانت قراراته في السياسيتين الداخلية والخارجية بعيدة عن التأثيرات الدينية فهو الذي أيد' الهند' ضد' باكستان' المسلمة في قضية' كشمير',
وأيد الأسقف' مكاريوس' ضد' تركيا' المسلمة في' قبرص' وحارب مشروع الحلف الإسلامي وحل الوقف الخيري والغي القضاء الشرعي وأعاد تنظيم الأزهر الذي نقف الآن في رحابه نتنسم عبق الماضي ورائحة التاريخ,' فعبد الناصر' بهذا المفهوم هو زعيم أقرب إلي الحاكم العلماني منه إلي غيره, ولكنني أعرف وتعرفون أن الدين متجذر في بلادكم حتي أن' الاسكندر الأكبر' سعي إلي معبد الاله' آمون' في سيوة
حتي يصبح مقبولا لدي الشعب المصري الذي كان يريده نقطة انطلاق لامبراطوريته الشرقية ولقد فعل' نابليون' شيئا مماثلا لذلك أيضا عندما تملق المسلمين وغازل الأزهر ورجال الدين في بداية حملته, ولكن ذلك كله لا يعني أن وسطية مصر الحضارية سوف تسمح بالسطو علي السلطة تحت شعار ديني أو مسمي روحي مهما تكن الظروف, لأن المصريين مقتنعون بأن فض الاشتباك بين الثروة والسلطة
يجب أن يتواكب مع فض اشتباك آخر بين الدين والدنيا ومرحبا في الوقت ذاته بالتدين الصحيح والتقرب إلي الله في كل وقت) عندئذ تطلع الإنسان إلي مآذن الأزهر السامقة وقال( إننا شعب متدين بل إن حجم الإنفاق الديني في مصر يفوق كل تصور ويصل إلي عدة مليارات من الجنيهات المصرية مع الإسراف في مظاهر ذلك التدين دون الوصول إلي جوهره,
فالحج والعمرة وحدهما يستقطعان رقما كبيرا من العملة الصعبة في ظل ظروف مصر الأكثر صعوبة! بالإضافة إلي السباق المحموم في بناء المساجد والكنائس واحتفالات الموالد وليالي رمضان وغيرها من طقوس العصر الفاطمي كجزء من التاريخ الطويل الذي عرفه الوادي العجوز ودلتاه الصامدة) عندئذ قاطعه الزمان قائلا في لهجة لا تخلو من السخرية( إذا كنتم تتخوفون من الدولة الدينية
فإن عليكم أن ترفعوا من شأن الدولة المدنية وأن تحاربوا الفساد وأن تسعوا إلي تمكين الفقراء وتحترموا سيادة القانون وتراعوا حقوق الإنسان وتحافظوا علي البيئة التي امتد التلوث إليها حتي وصل إلي مياه النهر التي كان يقسم بها الفراعنة ويعتبرون أن الامتناع عن تلويثها هو رمز للفضيلة وتعبير عن سمو المكانة) وأضاف الزمان( إن طقوس الحياة لا تحتاج إلي التداخل المفتعل بين ما هو ديني وما هو دنيوي فمنذ انفصلت السلطة الزمنية عن السلطة الروحية انطلقت الشعوب تسعي نحو الأفضل ولماذا تذهبون بعيدا؟ إن' التجربة التركية' بغض النظر عن بعض الملاحظات عليها تمثل إنجازا سياسيا إسلاميا رائعا أوافق عليه وأتحمس له ما دام هناك اقتناع بأن الأمة مصدر السلطات وبمبدأ تداول السلطة ودوران النخبة, فالحياة لا تقف عند فرد ولكنها تتجاوز ذلك إلي رحابة الكون الفسيح فيصبح من حق أتباع التيار الديني الذين لا أتفق مع فكرهم أن أتضامن مع حقهم في التعبير عن رأيهم) وفي تلك اللحظة اقترح الزمان علي الإنسان أن يكون لقاؤهما القادم علي مشارف قناة السويس يطلان علي سيناء شرقا وعلي الوادي غربا ويناقشان تأثير الوضع المتفجر في المنطقة علي الشعب المصري الذي لا يهوي العنف ولا يستمريء التعصب ولا يقبل الإرهاب.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/8/7/WRIT1.HTM