جاء في القرآن الكريم قوله تعالي' والعصر إن الإنسان لفي خسر' لذلك رأيت أن نجري حوارا بين العصر بكل ما يحمله من هموم وشجون, والإنسان المعني بقضايا الإصلاح قبل غيره, لأن ذلك الحوار يحدد المسار نحو المستقبل وعلاقة الأحداث والمواقف بالظروف والتوقيتات, وسوف نجري الحوار بين الإنسان والزمان بافتراض تثبيت عنصر المكان وهو المنطقة التي نعيش فيها وننتمي إليها, وسوف نعالج في وضوح وأمانة عددا من القضايا المؤثرة في حياتنا والمواكبة لروح العصر, وهذا الحوار بين الإنسان والزمان بدأته في صيف عام1966 وقبيل النكسة بأشهر قليلة لأنني كنت استجيب أيامها لتساؤلات شاب في مفترق الطرق وفضول باحث عن الحقيقة ولقد أودعت أفكاري وقتها في كتابي' حوار الأجيال' وها أنا أعود إلي ما بدأت منذ أكثر من أربعين عاما لكي يلتقي الإنسان والزمان في حوار مختلف, حيث الدنيا قد تغيرت والقضايا اختلفت والأولويات تبدلت فأنا مشغول ـ مثل عشرات الملايين من المسلمين والمسيحيين في المنطقة العربية ـ بالحفاظ علي الدولة المدنية التي تحققت مع ميلاد الحكومة الحديثة والنظام السياسي الذي يأخذ بالقانون الوضعي,
مع الاحترام الكامل لشرائع السماء وسموها ومكانتها العالية, والآن دعنا نتابع الحوار الذي يدور بين الإنسان والزمان في منطقة هادئة فوق هضبة الأهرام غير بعيد عن مجري النهر الخالد إذ يوجه الزمان حديثه للإنسان قائلا( ما هذا الصخب التي تعيشه مصر وما أسباب الضجيج المتصاعد من أرض الكنانة؟) فيرد الإنسان( إنه القلق الذي يصيب البشر في فترات التحول عندما تستيقظ الشعوب وتصحو الأمم, فتزداد التجاوزات ويخرج الجميع علي النص, إنه القلق الذي يدفعنا إلي الحرص علي الوطن في ظل الدماء التي تحيط بنا والأشلاء المتناثرة فوق الأرض العربية والإسلامية, إننا أمام تحد غير مسبوق نشعر معه أننا لسنا في نهاية العالم أو في نهاية التاريخ كما زعم بعض فلاسفة العصر ولكننا أمام شيء يشبه نهاية الزمان, فالكل محبط ومضطرب وغاضب) وهنا يبادر الزمان قائلا( إنكم هنا فوق هذه الأرض الطيبة حيث تزاوجت الحضارات وتعاقبت الثقافات تستحقون أكثر بكثير مما أنتم عليه ولكن تراكم الأخطاء وغياب الرؤية هما اللذان يمارسان دورهما السلبي في حياتكم, ويبدو أن الكثير من مشكلاتكم ينبع من فقر المنهجية,
فالهنود بدأوا معكم في نفس الوقت منذ ستة عقود ولكنهم واصلوا الطريق وتوافر لهم عنصرا الجدية والاستمرار, أما أنتم فلقد اخترتم الحلول السهلة وفضلتم المظاهر السريعة وعليكم أن تدركوا الآن أن هناك أجيالا تبني وأخري تجني, بل إنني أشعر بدهشة لكثير مما شهدناه في العصر الناصري عندما كنتم تعانون من غياب التعددية السياسية وفقر الديمقراطية, ومع ذلك كانت مساحة الليبرالية الاجتماعية واسعة ودرجة التسامح الديني متناسبة مع عصرها, أما الآن فالصورة مختلفة تماما فمساحة الحرية السياسية تتزايد, ومع ذلك فإن الانفتاح الاجتماعي يتراجع والتعصب يزداد والتطرف يبدو وكأنه سمة ذلك الزمن الرديء) وهنا مط الإنسان شفتيه مبديا امتعاضه وحدث الزمان قائلا( إننا هنا في بلد العجائب وصدق من قال' كم في مصر من المبكيات' بل إن' المتنبي' في بيته الشعري الشهير عندما تحدث عن نواطير مصر وثعالبها إنما كان يشير إلي واحدة من أغني بلاد الأرض, حيث يجري استنزاف ثرواتها منذ سبعة الآف عام
ولكن شعبها صامد وإذا كانوا يقولون انه قد بني الأهرام وحفر قناة السويس وشيد السد العالي كل ذلك بالسخرة إلا أننا نقول انه شعب متخصص في صناعة الحضارة وتصدير الثقافة وحمل شعلة التنوير فلقد عرف الدولة المدنية مع عصر محمد علي واكتملت له منذ أكثر من قرنين من الزمان ملامح المجتمع العصري بمقوماته وركائزه, لذلك فإننا عندما نشعر بزحف التيارات الدينية علي الحياة السياسية فإننا ندرك أننا أمام مواجهة لابد من حسمها بالعقل والحوار والحكمة لأن تقويض دعائم المجتمع هو تراجع قومي عام يعود بنا عشرات السنين إلي الوراء ويفتح بابا للفوضي الفكرية والتعصب الديني والصراع الطائفي وربما الصدام الطبقي أيضا), فرد الزمان منتقدا وقال للإنسان( لماذا يقلقك إلي هذا الحجم ذلك الاشتباك بين الدين والسياسة ولا يقلقك الاشتباك بين السلطة والثروة؟ فالانحرافات موجودة وجيوب الفساد قائمة والحاجة إلي الإصلاح ملحة. إنكم لا يجب أن تغطوا خطاياكم وتخفوا عجزكم علي حساب الآخرين فلابد من المصارحة الكاملة والمكاشفة الحقيقية والشفافية بغير حدود),
وهنا نظر الإنسان إلي الزمان نظرة جادة وعميقة وقال له( إنني أوافقك في إشارتك إلي السلبيات التي تحيط بنا والفساد المنتشر في حياتنا, وأري ضرورة الاسراع في خطوات الإصلاح الجدي علي نحو يحسم فيه المجتمع أمره ويسعي لبناء ذاته في جميع قطاعاته, ودعني أذكرك بأن هناك نوعين من التناقض فهناك تناقض أساسي وتناقض ثانوي ولا يجب أن نخلط بين الاثنين وإن كانت هناك ثوابت لا خلاف عليها تصلح معيارا لتقويم ما أشرنا إليه ولذلك فإنني أقول لك وبوضوح إن هدفنا يجب أن يتجه إلي مواجهة الخطر الأساسي المتمثل في تراجع القرار العقلي وإحلال الخرافة بديلا عن العلم وشيوع ثقافة الغيبيات فضلا عن اشتباك الدين بالسياسة علي نحو قد يؤدي إلي تقويض المقومات الأساسية للمجتمع وإشاعة فكر انعزالي يعود بنا إلي الوراء وذلك في حد ذاته خطر يتهدد الشعوب العربية والإسلامية نتيجة ضعف المجتمع المدني وانكماش مساحة الليبرالية الفكرية والاجتماعية بالإضافة إلي إقحام فكر أحادي لا يملك أبعاد الرؤية الشاملة لما يدور حولنا في عالم اليوم لذلك فقد حكم ذلك النوع من الفكر الإقصائي علي نفسه بالعزلة
وهو يسعي دون أن يشعر إلي عزلة مصر ذاتها غير مدرك أن موقعنا علي خريطة العالم لا يتحدد فقط برأينا في الآخر ولكن أيضا برأي الآخر فينا, فنحن لا نعيش وحدنا فوق هذا الكوكب بل تشاركنا فيه ملل ونحل وثقافات وحضارات وأصول وأعراق قد نتفق معها أو نختلف ولكن السفينة البشرية تضم الجميع في النهاية), وهنا تتطلع الزمان إلي الأفق البعيد وقال( كفانا فلسفة وتنظيرا, قل لي بوضوح إذا كنت ترفض الاشتباك بين الدين والسياسة وأيضا الاشتباك بين السلطة والثروة فعليك أن تقف ضد الاثنين معا فكما تخشي من التطرف يجب أن تقلق كذلك من الفساد), عندئذ رد الإنسان( دعني الآن أقولها لك صريحة إن القضاء علي الفساد وفك الاشتباك بين السلطة والثروة قد يحتاج إلي سنوات قليلة, أما الاشتباك بين الدين والسياسة وسقوط الدولة المدنية فقد يحتاج الأمر في إصلاحه لعدة عقود وربما لعدة قرون أيضا)!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/7/10/WRIT1.HTM