إن أول الطريق إلي العلاج الصحيح لمرض معين أو مشكلة ما, هو الاعتراف بوجود الداء وتوصيفه بدقة واستعراض جميع جوانبه في وضوح كامل وصدق مع النفس وتجرد وموضوعية تضع الأمور في نصابها الصحيح, ولذلك فإنه يتعين علينا التسليم بوجود صراعات لا يزال بعضها مكتوما بينما يطفو البعض الآخر علي السطح, لذلك فإن كل متأمل فيما يدور علي مسرح الحياة العامة المصرية لابد أن يلاحظ أن خللا ما يوجد في تلك المنطقة الرمادية بين الأغلبية الطاغية والأقلية المستبدة علي نحو أدي إلي أزمة ثقة واضحة لا نكاد نعرف سبيلا للتخلص منها أو أسلوبا للفكاك من تأثيرها, ولعل أحداث الشهور الأخيرة علي الساحة المصرية تشير بشكل قاطع إلي وجود ما يجب التصدي له والسعي لعلاجه بدلا من إنكار الحقائق والاسترسال وراء منطق التهويل أو التهوين, وكلاهما يجب ألا يكون علي حساب المواجهة المطلوبة ولعلي أفصل هنا ما ورد في هذه المقدمة العامة من خلال الملاحظات الآتية:
أولا: إن الثقة الضائعة بين أطراف اللعبة السياسية في مصر قد أدت إلي درجة عالية من الشكوك المتبادلة وسوء التأويل الذي لا حدود له, وقد انعكس ذلك علي صفحات صحف الإثارة في جانب وصمت الحكومة في جانب آخر فضلا عن انشغال كثير من المواقع والمؤسسات بالجدل العقيم وحوار الطرشان علي نحو غير مسبوق في حياتنا السياسية, لذلك أصبحنا أمام حالة فريدة فيها درجة عالية من الغليان السياسي والتوتر المستمر والإحباط العام.
ثانيا: إنني أظن أن التعديلات الدستورية الأخيرة لو طرح معظم بنودها في أية ديمقراطية غربية متقدمة للقيت قبولا عاما, ولكن المشكلة الحقيقية في مصر تكمن في حالة التوجس المستقرة في أعماق المصريين تجاه ما يأتي من خلال قرارات فوقية, فضلا, عن محنة الشك التاريخية التي تفصل بين المواطن والسلطة علي أرض الكنانة, فهناك تراكم تاريخي للفردية والتسلط ينتهي إلي شبكة معقدة من ردود الفعل السلبية تجاه كل ما يحدث, فالعبرة ليست بالنص إذ أن النصوص الدستورية الجديدة في مجملها يمكن أن تكون مقبولة ولكن تطبيقها علي الحالة المصرية هو مصدر القلق وسبب المشكلة, فالمعارضة تشعر أن ما يحدث ليس خالصا لوجه الله والوطن ولكنه يستهدف أجندة خاصة تستند إلي مجموعة من الظنون والشكوك والغايات كما أن هناك إحساسا عميقا بأن كل ما يصدر عن نظام الحكم إنما يجري توظيفه لخدمته وتعزيز مكانته!
ثالثا: لو أخذنا البرلمان المصري في الشهور الأخيرة نموذجا للدراسة فسوف نكتشف أنه قد وقع بين شقي الرحي, طغيان الأغلبية للحزب الوطني الحاكم في جانب واستبداد الأقلية خصوصا من نواب جماعة' الإخوان المسلمين' في جانب آخر, فالجلسات الصاخبة حافلة بالصراخ والانفعال والانسحاب والتنابذ بألفاظ حادة إلي حد التراشق بالعبارات النابية. وقد يقول قائل إن ما يحدث في برلمانات العالم الأخري قد يتجاوز ذلك أحيانا ولكن الفارق في الحالة المصرية هو أن اللعبة السياسية تتم هنا دون قواعد متفق عليها أو قواسم مشتركة أو أرضية, واحدة, وهذا كله أمر يدعو إلي الإحساس بأن الظاهرة غير صحية وأن الأمور لا يمكن أن تستمر كذلك وأنه لابد من نظرة مختلفة لهذا الذي يجري حولنا.
رابعا: إن ثقافة الاختلاف التي تحدثنا عنها من قبل لا وجود لها تقريبا في الخلفية الاجتماعية لمعظم شعوب المنطقة خصوصا الشعب المصري حيث تجري عملية' شخصنة' لكل القضايا العامة في دولة ورثت من تقاليدها الفرعونية أن الفرد أقوي من المؤسسة, فكانت النتيجة هي اختلاط الأوراق وتداخل المواقف بحيث زالت الفروق بين أطياف المعارضة المصرية, فوجدنا من اليسار من يدعم الإخوان المسلمين ومن قوي اليمين من يتحالف مع أحزاب ترتبط بمرجعية ناصرية مثلا, وفي ظني أن هذه المسألة خطيرة للغاية لأن الكل قد فقد هويته السياسية ليذوب في أتون الغليان الذي تشهده الساحة بشكل ملحوظ.
خامسا: إن هناك مدرستين في العمل السياسي المصري الراهن مدرسة تري ان إصلاح النظام وإعادة ترتيب الأوضاع هي أمور ممكنة مهما كان درجة تفشي الفساد وشيوع الانحرافات, بينما تبدو عملية فك الاشتباك بين الدين والسياسة معقدة للغاية وقد لا تنجح علي المدي الطويل, أما المدرسة الثانية فهي تري أن التغيير هو البديل الأقوي عن الإصلاح التدريجي وأنه لا يمكن القبول بالتداخل بين السلطة والثروة بديلا عن الاشتباك بين الدين والسياسة, وهاتان المدرستان ـ في ظني ـ لا تقفان علي أرضية قوية لأن البديل الحقيقي لهما هو التمسك بالوطنية المصرية مع إعمال مبدأ' المواطنة' وإسقاط كل أسباب التمييز بسبب النفوذ أو العقيدة أو المستوي الاجتماعي, ويجب ألا ننسي أن الدين هو مفهوم مطلق بينما السياسة نسبية بطبيعتها, لذلك فهو خلاف بين المقدس والبشري والفارق بينهما أكبر من إمكانية احتوائه أو السيطرة عليه.
.. هذه محاولة موجزة لسبر أغوار الموقف الراهن في أرض الكنانة بسبب افتقاد المواجهة الشجاعة لأبعاد الواقع بما له وما عليه, فهناك منابر غائبة وثقة مفقودة وإذا كنا نرفض قيام أحزاب دينية فإن علينا أن نوجد قنوات شرعية تعبر بها بعض القوي والجماعات عن رأيها, فأنا شخصيا لا أوافق علي التوجهات الحالية لجماعة الإخوان المسلمين ولكنني أطالب في الوقت ذاته بضرورة إيجاد حل لهذه الإشكالية التي تواجه جوهر الديمقراطية في مصر, فهناك حلقة ناقصة في سلسلة التطورات الإصلاحية في السنوات الأخيرة ولا سبيل لإنكار ذلك, لأن الصخب الزاعق الذي تتردد أصداؤه في جنبات الوادي تؤكد أن الوقت قد حان للخروج من كهوف العزلة ودوائر التخلف, خصوصا أن سياسة ترك الجميع ليقولوا ما يريدون بينما الحكومة عاكفة علي تنفيذ ما تراه صوابا دون اشتباك فكري أو سياسي بين الطرفين قد أثبتت عدم فاعليتها حتي أصبحت مصر في أشد الحاجة إلي مزيد من الصحوة واليقظة واعتماد سياسات إيجابية في جميع المجالات الداخلية والخارجية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/5/15/WRIT1.HTM