السؤال الذي يطرح نفسه في هذه المرحلة من تطور النظم العربية هو هل تصل أفكار النخب في مواقع السلطة واتخاذ القرار إلي رجل الشارع العادي؟ أظن أن المسألة أعقد بكثير مما نتصور إذ أنه واهم ذلك الذي يعتقد أن المواطن العربي يستجيب لكل ما يدور علي السطح أو في الأبراج العليا من حوارات المثقفين ومن يتحكمون في تحديد مسار المستقبل للدول المختلفة, أقول ذلك وفي ذهني تجربة التعديلات الدستورية المصرية الأخيرة وأتساءل بيني وبين نفسي: هل يا تري يتجاوب الفلاحون في القري والعمال في المصانع وبسطاء الناس مع ذلك الجدل الذي دار قبل وأثناء وبعد تلك التعديلات؟
أفهم أن يهتم بهذه الأمور رجال السياسة والقانون وذوو المعرفة من أصحاب الاهتمام بالقضايا العامة ولكنني لا أظن أن قاع المجتمع قد تجاوب مع قمته خصوصا أن حجم الاهتمام بالحياة العامة والقضايا القومية يتضاءل بين الأجيال الجديدة مهما كانت درجة حيازتها للمعرفة أو حصولها علي درجات علمية, فنحن نمر بعصر المجتمع المدني وليس عصر الدولة المركزية القوية, لذلك يتساءل الكثيرون: لماذا توارت هيبة الحكم وتراجعت سطوة النظم ولم يعد لها من رموز باقية إلا مظاهر الدولة' الحارسة' التي تعتمد علي الشرطة والقضاء ومجموعة من' التكنوقراط' يرسمون وحدهم خريطة المستقبل ويشكلون نسيج الحياة,
ولا يبدو أن الأمر الذي نتحدث فيه يدور حول قضية نظرية بحتة, بل علي العكس هو يعالج الواقع العملي في جوهره الحقيقي فالإنسان العصري يفكر في احتياجاته اليومية وتستغرقه مشكلاته الذاتية ولا يعبأ كثيرا بالقضايا الوطنية أو الشئون العامة, وقد لا ينفعل كثيرا بها, وإذا حدث ذلك فإنه يكون في الحدود الضيقة للمنظور الاقتصادي الذي ينعكس علي تكاليف المعيشة وأعباء الأسرة حتي أن قضية التعليم وهي في ظني قضية القضايا وأم المسائل لا تستأثر بالاهتمام الواجب في الشارع العادي,
وقد تكون فقط بؤرة الاهتمام لدي المعنيين بالدراسات المستقبلية والتخطيط القومي, ولعلنا نفصل هنا ما أجملناه في هذا الشأن:
أولا: إن حجم الفقر ونوعية المعاناة في بلادنا أكبر مما نتصور, فإذا تحدثنا مثلا إلي أسرة محدودة الدخل تقطن إحدي العشوائيات عن الإصلاح الدستوري فإننا نكون مثلما حكي عن' ماري أنطوانيت' عندما اشتكي إليها فقراء فرنسا من عدم وجود خبز فأشارت إليهم بأن' البسكويت' متاح! فليس من أولويات المعدمين ذلك الجدل النظري الذي لا يغني ولا يسمن من جوع ولقد صدق الإمام' علي' ـ كرم الله وجهه ـ عندما قال' لو كان الفقر رجلا لقتلته' وهذه حكمة بليغة إذ أن الفقر هو الذي يفرخ الإرهاب والجريمة ويشحن الصدور بموجات الحقد والكراهية والعنف.
ثانيا: إن العلاقة بين نتائج الإصلاح وحياة الناس اليومية غير واضحة فهي تعكس حالة الانفصال بين الشارع والمثقفين عامة والمعنيين بالشأن السياسي خاصة, ويرجع ذلك إلي ضعف النظام الحزبي القائم وعدم القدرة علي تعبئة الناس حول مفهوم محدد أو مدلول واضح لكلمة الإصلاح حتي أن البعض يظن أنها كلمة حق يراد بها باطل خصوصا في بلد يملك تراكما تاريخيا من أزمة الثقة بين الحكم والمواطنين, كما أن افتراض سوء النية وانحراف التأويل هي كلها مظاهر للحلقة المفقودة بين المواطن العادي وأجهزة السلطة والتي جعلته يؤمن بأن كل ما يأتيه ـ فوقيا ـ لا يعبر عنه ولا ينتمي إليه.
ثالثا: إنني أظن أن تداول السلطة يعطي' دينامية' للحياة السياسية ويجدد الأمل لدي الأجيال والطبقات ويوحي لها بأن هناك حراكا ملموسا علي ساحة الحياة السياسية العامة, ولا يغيب عن بالنا أن قضية الديمقراطية ودرجة مصداقيتها ومستوي الشفافية فيها هي كلها عوامل جذب لاهتمام الشارع وشده نحو مراكز اتخاذ القرار وتطلعه إلي القوي المعنية بالإصلاح والتغيير.
رابعا: إن الاهتمام بالسياسة الخارجية للدولة والحماس لمفهوم الدور هو الذي يوجد هدفا قوميا عاما يلتف حوله الناس ويسعون إليه ويتعاملون معه ولا يمكن استثارة اهتمام الطبقات الكادحة في المجتمع إلا بتحريك نزعة الزهو القومي أو الشعور بإنجازات ملموسة علي الصعيد الخارجي وهي بالضرورة امتداد لإنجازات مماثلة داخليا.
خامسا: دعنا نكن صرحاء, فإن لغو الصفوة وثرثرة المثقفين هي أمور بعيدة عن اهتمامات الناس كما أنها نوع من الترف الفكري الذي لا يستهوي العامة ولا يجذب البسطاء خصوصا في بلد تقترب فيه نسبة الأمية من نصف السكان, ولذلك تبدو حوارات السياسيين ورجال الأحزاب بل والجامعات والنقابات بعيدة عن حياة الناس ومشكلاتهم اليومية وظروفهم الصعبة وهذه نقطة هامة لأنها تكشف عن السبب الحقيقي للسلبية واللامبالاة في الحياة السياسية عموما وخلال الاستفتاءات والانتخابات خصوصا.
.. هذه محاولة كاشفة للعلاقة الغائبة بين النخبة في جانب وعموم الناس في جانب آخر, وهي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن مسئوليتنا الحقيقية تكمن في شد انتباه المواطن العادي بالخدمات الحقيقية والانجازات المطلوبة وليس بالشعارات الرنانة والعبارات الجوفاء, ولندرك أن هموم الحياة تعتصر الناس ولا تبقي فيهم إلا مشاعر القلق بل والغضب والابتعاد عن الساحة مهما يكن بريق الدعوة أو إغراء الموقع, وسوف نظل دائما من المنادين بضرورة النزول إلي الشارع واستلهام نبض الجماهير والكف عن ترديد أطروحات غامضة وعبارات براقة, لأن الناس لا تقتات كلاما ولا تعيش في ظل تجارة الوهم,
فالمطلوب دائما هو تعبئة الشعور الوطني وحشد الموارد من أجل أهداف عليا ارتضاها المجتمع والتف حولها الشعب وتوافق عليها أغلب أبنائه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/5/1/WRIT1.HTM