شهدت مصر في الستينيات من القرن العشرين موجة اهتمام بالعلوم التطبيقية وتقاطر الطلاب علي الأقسام العلمية في المدارس والكليات العملية في الجامعات وبدت مصر وكأنها بحق أمام بوابة المستقبل الواعد للأجيال الجديدة وتراجعت وقتها الكليات النظرية بشكل ملحوظ ثم دار الزمان دورته وتبدلت الأوضاع بعد ذلك بسنوات قليلة فإذا الإقبال يبدأ من جديد علي بعض الكليات النظرية ويتراجع عن عدد من الكليات العملية فكلية الحقوق بدأت تستعيد عرشها بينما كلية الزراعة لا تكاد حاليا تجد الأعداد الكافية التي تطلبها.
ولاشك أن تفسير هذه الظاهرة مرتبط بالتحولات الاجتماعية وازدهار القطاع الخاص وسياسة الانفتاح الاستهلاكي والاستثماري في آن واحد وعلي الرغم من أن الاتجاه العالمي يساند التوجه نحو العلوم التطبيقية والدراسات العلمية إلا أنه لا يغفل في الوقت ذاته عن أهمية الدراسات الأدبية والكليات النظرية كما أن الفنون تظل قاسما مشتركا في كل زمان ومكان لأنها لغة الحضارة والتعبير الإنساني الدائم لكل الحضارات وهي الانعكاس التلقائي للمزاج القومي بين الأمم والشعوب لعل الذي دفعني إلي كتابة هذا المقال هو ما لاحظته عن الاحتفال السنوي الذي يحضره السيد رئيس الجمهورية تحت مسمي' عيد العلم'
ولكن الغريب في الأمر هو أن التكريم قد أصبح مقصورا علي العلماء من ذوي الإسهامات المشهودة في البحث العلمي والدراسات التطبيقية بينما لم يعد للأدباء والمفكرين والفنانين تلك المكانة التي يستحقونها من دولتهم التي احتضنت الحضارات وامتزجت فوق أرضها الثقافات عبر تاريخنا الطويل فالاحتفال السنوي بعيد العلم أصبح مرتبطا بجوائز' أكاديمية البحث العلمي' ولا يتضمن أولئك الذين حصلوا علي جوائزهم من' المجلس الأعلي للثقافة' في فروع الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية ولقد حصلت شخصيا علي جائزة الدولة التقديرية منذ عدة سنوات ولم أتسلم الشهادة الدالة علي ذلك أو الميدالية المرتبطة بهذه المناسبة
كما لم أتشرف أنا وغيري بتكريم السيد الرئيس لنا كذلك فان السيد وزير الثقافة لم يقم بالتكريم هو الآخر ربما لأنه لم يفوض في ذلك أو أن ظروفا حالت دون تحقيقه ولن أنسي تساؤلات الأستاذة الدكتورة عائشة راتب وهي أستاذة أجيال في الجامعة ووزيرة وسفيرة سابقة حصلت علي جائزة الدولة التقديرية في أوائل التسعينيات باعتبارها فقيهة متميزة في القانون الدولي الخاص ولكنها لم تحصل حتي الآن علي الشهادة أو الميدالية لسبب لا نعرفه حتي تراكم عدد من لم يتسلموا جوائز المجلس الأعلي للثقافة ليصبحوا بالمئات وبقية الميداليات مودعة بأحد البنوك لحساب وزارة الثقافة بينما لا يتمكن أصحابها من الحصول عليها لأسباب لا تبدو مقنعة علي الإطلاق فنحن ندرك أن وقت الرئيس لا يتسع لتسليم الشهادات والميداليات لكل الحاصلين علي جوائز الدولة التقديرية أو للتفوق أو التشجيعية ولذلك فإننا نري أن وزارة الثقافة يمكن أن تقوم بهذا العمل وأن يسلمها لمستحقيها وزيرها وهو فنان تشكيلي عالمي مرموق كما أن الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة هو قيمة أدبية وفكرية يعتز بها الوطن ولعل أمر الجوائز والعلاقة بين العلوم والفنون والآداب تثير أمامنا الملاحظات الآتية:-
أولا: إنه لا توجد خطوط فاصلة بين العلماء والمفكرين ولعلي أقدم نموذجا لذلك صديقي وزميل دراستي الدكتور' أحمد زويل' الحاصل علي جائزة' نوبل' منفردا عام1999 في أكثر فروع العلم تقدما ورقيا وهو الذي تتوقع الأوساط العلمية كما سمعت بذلك من زيارة أخيرة إلي العاصمة الألمانية' برلين' حصوله مرة أخري علي ذات الجائزة لاكتشافات علمية جديدة ومبهرة تسهم في تقدم الإنسانية وتخفيف آلام البشر في سابقة محدودة لتاريخ' جائزة نوبل' فهذا العالم الكبير هو في ظني ويقيني مفكر كبير أيضا لأنه معني بشئون الإنسان وشجون الوطن وله رؤيته الشاملة لأساليب الإصلاح وأدوات التقدم لذلك فإن نموذج' زويل' وغيره يؤكد أن المسافة بين العلم والفكر تكاد تكون معدومة فما من عالم متميز إلا وهو مفكر مرموق أيضا.
ثانيا: إن نظرية وحدة المعرفة أصبحت تطل من جديد علي عالم اليوم كما أن نموذج العالم الموسوعي قد بدأ في العودة إلي مسرح الحياة المعاصرة ولم يعد التخصص حاجزا دون اقتحام مجالات المعرفة الأخري. فالتداخل بين فروع العلم قد أدي إلي تهجين التخصصات وظهور سبائك جديدة من ألوان المعرفة التي لم تكن متاحة من قبل لذلك فإن التقسيم التقليدي مابين التخصصات المدرسية في العلوم أو الآداب أو الرياضيات هو تقسيم معيب فلقد جدت علي العالم فروع حديثة لم تعد تسمح بمثل هذا التقسيم التقليدي المتجمد.
ثالثا: لا يتصور احد أن تقدم الأمم واندفاع الشعوب إلي الأمام مرهون فقط بالبحث العلمي دون الاهتمام بالآداب والفنون بل إن الدول المتقدمة قد ربطت ربطا مباشرا بين التفوق التكنولوجي والتميز الأدبي والتألق الفكري فكل منها مكمل للآخر ولا يوجد ما يدعو إلي غير ذلك ولقد عرفت الدنيا عصرا كانت فيه الدراسات النظرية هي التي تضيء الطريق أمام البحث العلمي والتقدم التكنولوجي فعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع كلاهما كان رائدا في هذا الميدان كما أن إسهامات علم الفلسفة كانت هي بداية الطريق الريادي لاكتشاف ألغاز الكون ومشكلات البشرية ويجب ألا ننسي أن الآباء الكبار من رواد المعرفة قد مزجوا في عمق وتميز بين العلوم والفنون والآداب فالمعلم' ابن سينا' وكذلك' الفارابي' هما نموذجان لهذا التواصل في الحضارة العربية الإسلامية وقد يندهش البعض إذا عرف أن' ونستون تشرشل' السياسي البريطاني الداهية حاصل علي جائزة' نوبل' في الأدب وليس في السياسة أو أحد فروع العلوم الاجتماعية الأخري فالمعرفة الإنسانية متكاملة ولا تقف عند خطوط فاصلة.
.. هذه رؤية معاصرة للعلاقة التبادلية بين العلوم والآداب والفنون في عصر لا يعرف الخطوط الفاصلة بينها لأنها تتقاطع في مساحات مشتركة لا تحتاج معها إلي تلك التفرقة التي نعمل بها هنا في مصر فنحن نبحث عن جيل جديد يمتلك الرؤية الشاملة التي تأخذ من كل أنواع المعرفة بطرف ويمزج بينها فتلك هي روح العصر وطبيعة المستقبل وأعود مرة أخري إلي الجوائز الغائبة والميداليات المحفوظة والشهادات المكدسة راجيا الفرج القريب الذي يعيد للأدباء والفنانين والمتخصصين البارزين في العلوم الاجتماعية الأمل في الحصول علي ما يستحقونه من تكريم فعيد العلم لا يتجزأ والمعرفة لا تتوزع والحق لا يضيع.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2007/1/23/WRIT1.HTM