ما أكثر الكفاءات فيك يا وطني, وما أعظم النبوغ فيك يا بلادي, فليس الذين يقفون في الميادين هم وحدهم أسياد الساحة, ولكن في مصر المنجبة مراكز متقدمة للبحث العلمي والتقدم التكنولوجي والرعاية الطبية, ومازلت أذكر أنني قد كتبت في' الأهرام' منذ ما يقرب من عشر سنوات مقالا قلت فيه إنني ذهبت يوما لفحص طبي في العاصمة النمساوية' فيينا' وأتذكر أن الطبيب النمساوي الشهير سألني عن مهنتي وعندما أجبته بأنني سفير مصر, أبدي دهشة واضحة وقال' كيف تأتيني ولديكم البروفيسور' محمد غنيم' في طب' المنصورة' ولديه أرقي مركز في المنطقة لعلاج أمراض الكلي والمسالك'!
وأردف الطبيب الشهير قائلا' إننا نرسل إلي ذلك المركز عددا من أطبائنا كل صيف ليتعلموا أكثر ويزدادوا خبرة من ذلك العالم ذائع الصيت وصاحب الشهرة دوليا باعتباره مؤسسا لمدرسة طبية متميزة ارتبطت به وبعدد من تلاميذه النابغين', لقد كتبت ذلك منذ سنوات وأنا لا أعرف حينذاك الدكتور' غنيم' شخصيا ولكن بهرني ما سمعته عنه من مصادر عديدة محلية وإقليمية ودولية, وعندما دعاني رئيس جامعة' المنصورة' الحالي لإلقاء محاضرة في الأسبوع الثقافي للجامعات لم أتردد وسعدت أكثر بأن زميلي في الجامعة البريطانية العالم الجليل الدكتور' أحمد أمين حمزة' قد تفضل وأجري اتصالا بالعملاق الزاهد في' المنصورة' يرتب لي موعدا للفحص الطبي أثناء زيارتي حتي أري علي الواقع ما سمعته وأشاهد مباشرة ما قرأته
ولعلي أسجل هنا دهشتي البالغة لأنني وجدت في ذلك الصرح الطبي الرائع ما فاق بكثير ماتخيلته عنه وما تصورته به, نظافة وبساطة ومستوي رفيع في الخدمة العلاجية, أطباء مصريون وصلوا إلي مستوي العالمية وتمريض مختلف عن كل ما ألفناه في بلادنا ولم أكن قادرا علي أن استوعب حقيقة أن مثل هذا المركز موجود في' دلتا' مصر, أما الدكتور' غنيم' فقد استقبلنا بشخصيته التي تشع ذكاءا وأسلوبه الساخر الذي يدل علي عمق الفلسفة الذاتية ويوحي بشمول النظرة الإنسانية ووضوح الرؤية العلمية ولقد ضاعف من دهشتي ما عرفته عنه من حقائق أجملها فيما يلي:
أولا:-إن الدكتور' غنيم' مسيس من قمة رأسه إلي أخمص قدميه بل إنه انضم في صدر شبابه لحركة قومية مؤثرة لها بصماتها الواضحة في أقطار المشرق العربي كما أنه مازال يتبني مسحة من الفكر اليساري المتوازن تجعله منحازا للكادحين مؤمنا بأهمية العدالة الاجتماعية مرتبطا بالشارع العادي مع كبرياء شخصي وترفع واضح عن اللهاث وراء رموز السلطة أوالثروة!
ثانيا: إن لدي الرجل اعتدادا ظاهرا بالقيم الجامعية وشرف المهنة العظيمة التي ينتسب إليها وزهدا واضحا في المناصب وإيمانا عميقا بالعمل كقيمة وبالنجاح كغاية, وعندما اختاره الرئيس الراحل' السادات' واحدا من مستشاريه أبدي العملاق الزاهد دهشته للقرار وعزوفه عن الموقع, ولكن الرئيس الراحل' السادات' قال له بدهائه المعروف إن المطلوب هوأن تضع هذه الوظيفة علي' الكارت' الشخصي لك فتفتح أمامك الأبواب وتزيل العقد وكأنما أراد الرئيس' السادات' أن يعطيه مفتاحا سحريا لعدد لا بأس به من الأبواب المغلقة حتي يدعم رسالته ويفتح أمامه ما أغلقته البيروقراطية والفساد اوهما معا.
ثالثا: إن تجربة البروفيسور' محمد غنيم' في' المنصورة' تؤكد إمكانية التفوق في ظل كل الظروف, ونحن نعتقد أن نجاح تجربة واحدة يمكن أن يكون نجاحا للمجتمع كله لأنه يؤكد أن تخطي حاجز البيروقراطية والجمود والادعاء بنقص الإمكانيات ممكن لأنها أمور تنسفها الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والإيمان العميق بالرسالة التي يعمل أصحابها من أجل تحقيقها.
رابعا: إن رجلا بحجم الدكتور' محمد غنيم' قد آثر أن يبقي في موقعه في تلك المدينة الناعسة علي شاطيء النيل الخالد ليؤكد لنا أن العاصمة يجب ألا تستأثر بكل شيء وأن الأقاليم تستطيع أن تتفوق وأن تتخطي حاجز المحلية لتصبح طرفا في حوار دولي متواصل يسمح بتبادل الخبرات دون حساسية أو تراجع, لذلك فإنني أظن مخلصا أن تجربة' غنيم' يجب أن تكون نموذجا لإمكانية العدوي وكسر الدائرة الشريرة لليأس التي أصبحت خانقة للأمل تفرض علينا طوقا من الإحباط المرتبط بشعور الفساد الشائع والمسيطر علي اهتمامات الناس!
خامسا: إن ولع البروفيسور' غنيم' بالحياة العامة المصرية وحرصه علي دعم كل التوجهات والأفكار التي من شأنها رفعة هذا الوطن قد أكدت لي ـ بعد زيارتي لمركز' غنيم' الطبي في' المنصورة' ـ أن التنابذ بين الخصوم والحوار العنيف بين أصحاب الرأي هوتجاوز لا مبرر له ومضيعة للوقت والجهد, فالانصراف إلي استثمار ما لدي كل فرد من كفاءات وتوظيفها لخدمة المجموع هو الطريق الوحيد لرقي الفرد وتقدم المجتمع وشيوع مناخ المعرفة بأوسع معانيها.
.. هذه انطباعات خرجت بها من تلك الزيارة التي تشرفت فيها بلقاء ذلك العالم العملاق ـ شكلا وموضوعا ـ كما اكتشفت منها أن الزهو الذي نشعر به عندما نري نجما من نجوم الوطن يسطع في السماء متألقا قد يعيد إلي نفوسنا جزءا من الثقة المفقودة ويعزز لدينا شعورا بأن' نوبل' التي جاءت للمصري العظيم' أحمد زويل' كان يمكن أن تجد أمامها أيضا عشرات من علمائنا الأفذاذ الذين يستحقونها عن جدارة واقتدار, إنني أريد أن أقول من هذه السطور إن بلادنا غنية بالنماذج الرائعة والتجارب الناجحة كما أن تسليط الضوء عليها يبدد من حالة الشحوب المعنوي الذي يعتري الكثير منا في هذا الزمن الرديء.
,, تحية لعالم زاهد يعيش علي ضفاف نيل مصر, وتهنئة له ولرفاقه علي رحلة شاقة قطعوها بالمثابرة والجد والالتزام, وليطرب الوطن بأن لديه رجلا مثل الدكتور' محمد غنيم' الذي لم يبخل بعلمه وجهده علي تلاميذه حتي مضوا وراءه علي نفس الدرب وخرجوا من أقاليم مصر ليحققوا مكانة دولية رفيعة, حتي إن بعض الطرق الجراحية المبتكرة تحمل اسماءهم تقديرا وعرفانا لعطاء لا يتوقف وعلم لا ينتهي ومكانة لا تضيع.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/12/12/WRIT1.HTM