تعودت كلما اقترب عيد ميلادي أن أسجل بعض الخواطر وأن أجنح إلي شيء من الفلسفة أراها ضرورية لمراجعة الملف الشخصي وتجديد مسيرة الحياة لا لأن الفلسفة هي فقط' أم العلوم' ولكن لأنني أظن أن تجارب البعض هي خبرة لغيرهم كذلك فإن أخطاء من يعترفون بها تفتح طاقات نور أمام الأجيال الجديدة, ولعلي أسجل هنا بكل شفافية أنني ممن يعتقدون أن الندم الإيجابي أفضل عشرات المرات من الندم السلبي وأن المرء حين يندم علي شيء فعله خير له أن يندم علي شيء لم يفعله, والأمر لا ينطبق علي الأفراد وحدهم ولكنه ينسحب أيضا علي الجماعات والنظم بل والشعوب والأمم, فإذا نظرنا إلي تاريخ مصر الحديث مثلا فإننا ندرك أن أخطاء محمد علي بل وأخطاء' عبد الناصر والسادات هي جزء مكمل لإيجابياتهم ومكون أساسي في تحديد هوية دورهم وعهود حكمهم, بل إن اسم' نابليون بونابرت' ـ بكل ما له من أخطاء ـ لا يزال يضيف إلي الشخصية الفرنسية زخما مستمرا ينعكس علي وضعها الأوروبي ومكانتها الدولية ولذلك فإنه واهم ذلك الذي يظن أن السلبية والامتناع عن إتخاذ مبادرات والمضي وراء مقولة' لا يخطيء من لا يفعل' لأن الحياة في النهاية هي مجموعة من القرارات والمواقف قد يصيب بعضها وقد يخطيء معظمها ولكنها في النهاية توليفة منهما معا وسبيكة من الفعل ورد الفعل أما اولئك الذين يظنون أن دور المتفرج في الحياة هو الأفضل فهم عاجزون, وسوف أخوض في ملفي الشخصي دون أدني تردد لكي أتحدث عن بعض اخطائي وأسجل أن ندمي عليها ندم إيجابي فيه قدر من الارتياح قد يفوق ما فيه من مرارة ولأن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان فهو سيد مصيره وصانع دوره مهما كانت' الفاتورة' في النهاية, إنني أعترف في أسبوع عيد ميلادي لهذا العام بأن لدي أخطاء بارزة أعيش بها وأتعايش معها وأعترف بوجودها ومنها:
أولا:- إن اختياري لطريق المستقبل كان أفقيا امتد علي جبهة عريضة بدلا من التركيز علي اتجاه واحد ففي السلك الدبلوماسي وصلت إلي درجة سفير ممتاز ومساعد أول لوزير الخارجية ومندوب لبلادي لدي جامعة الدول العربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية, وفي المسار الأكاديمي كنت أستاذا بالجامعة الأمريكية ثم رئيسا للجامعة البريطانية, وعلي المستوي الفكري والثقافي أصدرت خمسة عشر كتابا أعيد طبع معظمها عدة مرات وترجم بعضها الآخر إلي الإنجليزية وتعاقدت' هيئة الكتاب' أخيرا في ظل رئاسة الدكتور'ناصر الأنصاري' مع دار نشر فرنسية لترجمة كتابين جديدين لي, فضلا عن مقالاتي المنتظمة في الصحف المصرية والعربية والأجنبية, وقد كرمتني مصر بجائزة' الدولة التقديرية' في العلوم الاجتماعية مثلما كرمتني من قبل بجائزة' الدولة التشجيعية' في العلوم السياسية, ولست هنا في مجال استعراض أمجاد شخصية فذلك أبعد ما يكون عن هدفي ولكن المغزي الذي أقصده هو أن تركيز الإنسان علي طريق واحد قد يكون أفضل من أن يكون مشتتا بين اهتمامات مختلفة خصوصا وأن عصر' الشخصية الموسوعية' قد ولي وأصبح نظام التخصص الدقيق يفرض نفسه علي حياة المدنية الحديثة.
ثانيا:- تعرضت لعاصفة عاتية في ختام عملي بمؤسسة سيادية نتيجة خطأ له طابع أمني وإنساني وأعترف هنا بأنني دفعت ثمنا لسذاجة غير معهودة وتصرف لا مبرر له خصوصا وأنني منفتح علي الناس قد لا آخذ الحيطة والحذر اللازمين في أيامنا هذه, وورغم المعاناة الوقتية من ذلك الموقف إلا أنني أدرك أن التجربة تقوي الإنسان ولا تضعفه وتضيف إليه ولا تنتقص منه لذلك يبدو ندمي إيجابيا, فيه نقد للذات ولكن ليس فيه عقدة تستقر في الوجدان.
ثالثا:- تحمست لدخول المجلس النيابي المصري قبل بلوغي سن التقاعد بسنوات خمس وتركت موقعي المتميز في وزارة الخارجية وضحيت باحتمال نقلي سفيرا للمرة الثانية بعد العاصمة النمساوية فكانت' تجربة البرلمان' بالنسبة لي مختلفة تماما عن سنوات عمري السابقة رغم تمرسي الطويل بالعمل العام فقد وجدت فيها تفاوتا واضحا بين المستويات وندرة ملحوظة في الكفاءات وصراعا مكتوما بين عهود الحكم المختلفة وقد حاولت فيها قدر جهدي واكتسبت منها خبرات جديدة وزملاء أعتز بهم علي نحو أثري لدي تجربة العمل التشريعي والرقابي والخارجي, ولكن ظل ندمي إيجابيا أيضا علي السلك الدبلوماسي الذي تركته قبل الأوان.
رابعا: ضجرت من منطق التعيين الذي لازمني منذ بداية السلك الدبلوماسي وفي مجلس الشعب وحتي في عضوية مجلس إدارة' نادي هليوبوليس'! ورأيت أن ادخل الانتخابات التشريعية عام2005 معتمدا علي رصيد طويل في العمل السياسي ودائرة واسعة من المعارف والأصدقاء وكان اختياري لدائرة مهمة في مدينة هي من أعرق مدن مصر علي الإطلاق فهي تحمل اسمها منذ العصر الفرعوني دون تغيير ولكنها مدينة صعبة المراس لأسباب تاريخية واجتماعية لا مجال الآن للخوض فيها وشعرت بمعاناة حقيقية خلال شهرين قضيتهما في ريف الدائرة الانتخابية وعاصمة الإقليم ذكرتني بمتاعب فترة التجنيد العسكري في بداية النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي التي كانت معاناة شاب في مطلع العشرينيات أما التجربة الإنتخابية فكانت معاناة رجل جاوز الستين فيها متاعب الأقاويل والشائعات والمناورات والإفتراءات مع ملاحقة بالليل والنهار تؤدي إلي انعدام كامل للخصوصية, فإذا ذهبت إلي الدائرة ثلاث مرات في الشهر فأنا مقصر, وإذا تمكنت من إيجاد فرص عمل لعدد من الشباب فلا تسمع صوتهم بالرضا ولكن تسمع الانتقادات الحادة ممن لم تستطع إيجاد الفرصة لهم أيضا, خصوصا وأن مفهوم الناس في مصر لعضو البرلمان هو أنه' ساعي بريد' متاح في أي لحظة للقيام بأي مهمة ولا علاقة لأبناء الدائرة بدوره التشريعي أو الرقابي أو الخارجي.
خامسا:- لم يكن اختياري للصحبة من حواريي المناصب موفقا دائما فأنا أقبل الناس بظاهرهم وأترك النيات لمن يعرف خفايا القلوب ـ سبحانه وتعالي ـ لذلك عانيت كثيرا من ردة المحيطين وغدر الرفاق وآمنت في النهاية بأن من يسرفون في النفاق لأصحاب المناصب هم أول الفارين منهم والمنقلبين عليهم عند شحوب الضوء.
.. هذه دروس أراجعها لسنوات مضت, وأستعين بها لسنوات أعيشها, وأتزود بحكمتها لسنوات قد تكون قادمة.. إنها عبرة يوم مولدي وجزء من رحيق العمر وحصاد التجربة وخبرة الحياة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/11/14/WRIT1.HTM