مخطيء من يتصور أن قضية البطالة هي قضية مطلقة, لأن الواقع يقول إنها قضية جدلية, إذ أن هناك فارقا كبيرا بين البطالة لمن لديهم مهارات وخبرات تتواءم مع عنصر الطلب في سوق العمل, وبين بطالة أخري تتفشي بالضرورة لدي أولئك الذين لم يحصلوا علي مهارات معينة ولم يكتسبوا خبرات مطلوبة لذلك فإن من يتأمل مسألة البطالة لابد أن يفرق بين بطالة أصحاب المهارات والقدرات وبين بطالة من لم يتأهلوا لسوق العمل الحالية وافتقدوا تماما متطلباتها ولم يستعدوا لما هو مطلوب منهم, وإذا طبقنا ذلك علي الواقع المصري_ وربما العربي والإفريقي بل والنامي عموما_ فإننا نسوق بعض الملاحظات ذات الصلة بهذا الموضوع ونوجزها فيما يلي:-
أولا: لايمكن أن نتحدث عن البطالة بين الشباب المصري الذي مازال يحمل مؤهلات الستينيات من القرن الماضي ويفتقد المهارات الحديثة بدءا من إجادة لغة أجنبية وصولا إلي إمكانية التعامل مع التقنية الحديثة واستخدامات' الكمبيوتر' وفروع تكنولوجيا المعلومات حيث لايمكن أن يلتقي عرض عقود مضت مع طلب العمل في القرن الحادي والعشرين, لأن الفجوة كبيرة ولايمكن' لمنحنيات السواء' أن تصنع نقطة التقاء بين العرض القديم والطلب الجديد, فما أكثر قوافل البطالة المكدسة لعشرات الألوف من العاطلين الذين يفتقدون القدرة علي متطلبات الحياة الوظيفية الحديثة في مجاليها العام والخاص من هنا فإننا نقول بصراحة إن كل شاب وفتاة في مقتبل العمر لا يستطيع أن يمضي في الحياة العملية وهو غير مسلح بالأدوات المطلوبة لعصر مختلف وغير مؤهل بالخبرة اللازمة لدخول ميدان جديد.
ثانيا: إن سوق العمل المصرية تبدو أمامنا مختلفة تماما عما كانت عليه منذ أربعة عقود حيث تزايدت أهمية إجادة اللغات الأجنبية بسبب سياسة الانفتاح الاقتصادي وإعمال آليات السوق وتبني سياسات وإجراءات النظام الحر بما أدي إلي ظهور أنماط جديدة من العمل ونوعيات من الوظائف لم يكن لها وجود من قبل, وهو ما استدعي بالضرورة تغييرا في نوعية المعروض في سوق العمل حتي أصبحت الحاجة ملحة لوجود خبرات جديدة وملكات معينة لم تكن محل اهتمام من قبل, كما أن عالم' الكمبيوتر' قد فتح آفاقا جديدة لم تكن مطروحة من قبل وأعطي قوة دفع كبري لعملية التحديث الشاملة في الطلب علي التشغيل وفقا للظروف والأوضاع الجديدة.
ثالثا: إننا يجب أن نفرق في إطار فلسفة التعليم عموما بين مدرستين, الأولي تسعي لتخريج موظفين يملأون دواوين الدولة ويسدون احتياجاتها وهي التي كنا نطلق عليها سياسة' دانلوب' التعليمية المعروفة في مطلع القرن العشرين, ومدرسة أخري لا تربط بين التعليم والوظيفة الحكومية بل تسعي إلي إكساب الطالب مهارات متعددة وكفاءات مفتوحة تؤهله للمضي في الطريق الملائم لمقتضيات العصر وطبيعة الظروف لذلك فإنني أظن أن السياسة التعليمية يجب ان تكون مرتبطة تماما بسوق العمل ومتطلباتها بدلا من أن تكون معزولة عن الواقع.
رابعا: تبدو الآن أهمية التدريب المهني, فالشهادة الجامعية لا تكفي وحدها لتأهيل الفتي أو الفتاة لمسرح الحياة المعاصرة حتي أصبح التدريب لايقل أهمية عن التعليم بل قد يزيد, لأنه هو الذي ينقل الدارس إلي أرض الواقع ويؤهله للعمل الذي يقوم به وما أكثر ماسعي إلينا بسطاء الناس يطلبون وظائف لأ بنائهم وبناتهم بينما هم يفتقدون تماما الأسلحة المطلوبة لعصر مختلف, فلا لغات أجنبية ولاإمكانات تحليلية ولا خبرات ضرورية في تكنولوجيا المعلومات, وهنا يشعر المرء بالأسف الحقيقي للفجوة القائمة بين ماهو متاح وماهو مطلوب ويتجه ببصره إلي السياسات الخاطئة والأساليب العتيقة في التعليم المصري وهو أمر يحتاج إلي مراجعة شاملة حتي نكتشف الواقع ونتعامل معه في وضوح وشفافية.
خامسا: إن مصر لا تحتاج إلي هذا الكم من الشهادات الجامعية العاطلة كما هو الحال الآن, كما أنها ليست بحاجة أيضا إلي هذا العدد الموجود من حملة الدكتوراه, فذلك في ظني نوع من الترف الذي لا مبرر له ولا حاجة إليه, إذ أن بلدنا ـ بل وكل المنطقة العربية والدول النامية ـ تحتاج في المقام الأول إلي العناصر المدربة والخبرات الواعية في مجالات التنمية المختلفة ليس المهم أبدا الألقاب والمناصب, لأن التنمية الشاملة تحتاج إلي جيوش من طوابير البطالة بشرط أن يكون لديها استعداد للتدريب المهني والتأهيل الوظيفي مع الرغبة في اكتساب القدرات المطلوبة والكفاءات اللازمة.
هذه ملاحظات أردنا منها أن نؤكد أن البطالة قضية يمكن علاجها بفتح مراكز التدريب المهني والتأهيل الوظيفي ولقد استمعت شخصيا إلي شكوي عدد كبير من رجال الأعمال الذين لا يجدون في سوق العمل ما يحتاجون إليه, فبينما طوابير البطالة تنتظر بلا جدوي فإن عشرات الألوف من فرص العمل تنتظر هي الأخري من يتقدم إليها بشرط أن يكون مؤهلا لها مهيأ للقيام, بها وتلك هي الحلقة المفقودة في قضية البطالة حاليا حيث تمثل أخطر مشكلاتنا وأصعب التحديات أمامنا والتي لايمكن حلها إلا بفتح الأبواب والنوافذ والتركيز علي التعليم الفني والتدريب المهني وتجويد الوظيفة, إنني أرفعها صرخة مدوية وأقول في جدية ووضوح إن نظامنا التعليمي هو المسئول عن مشكلة البطالة بأبعادها المأساوية ووجهها الكئيب وانعكاسها السلبي علي الاقتصاد الوطني ومستقبل الدولة ورفاهية الشعب بل وكبرياء الأمة أيضا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/10/17/WRIT2.HTM