كتبت منذ عدة شهور مقالا ناقشت فيه أهمية امتلاك مصر لبرنامج نووي لأغراض سلمية, واستعنت في ذلك بمتابعتي لهذا الشأن من خلال موقعي علي امتداد أربع سنوات كمندوب دائم لمصر لدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي, وقد ذكرت في مقالي ذلك أن البرنامج النووي لمصر كان هو الثاني في قارتنا بعد جنوب إفريقيا, ولكن دولا أخري دخلت الميدان مثل نيجيريا والمغرب والجزائر حتي أصبحت قدرة مصر علي الاحتفاظ بترتيبها الإفريقي محل تساؤل وموضع نقاش خصوصا بعد أن استعادت دولة جنوب إفريقيا مقعدها الدائم في الوكالة الدولية للطاقة الذرية بانتهاء سياسة التمييز العنصري التي عاني منها شعبها بحيث تركت ذلك المقعد الدائم لمصر لتشغله قرابة عشرين عاما, وبعد أن نشرت مقالي المشار إليه وجدت له أصداء في الصحافة الأجنبية والعربية وتعليقات متتابعة أعترف أن بعضها قد حمل مقالي ما لا يحتمله, واعتبره ارهاصا مبكرا لتفكير مصري في مشروع نووي,
وأتذكر أنني استقبلت وقتها في مكتبي مبعوثا أمريكيا هو نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية المعني بشئون الطاقة النووية الذي جاءني ومعه صورة للمقال بالعربية وترجمته بالانجليزية ودار حديث بيننا حول مدي شعبية هذه الدعوة الي إيجاد برنامج نووي مصري وما هي الدوافع إليها والنتائج المنتظرة منها؟ وقد كان واضحا أن نظرة الضيف الأمريكي تدور حول مستقبل الاحتمالات العسكرية لذلك البرنامج, وتأثير ذلك علي التوازن الاستراتيجي في خريطة الشرق الأوسط, وقد أفهمته يومها أن ما أدعو إليه إنما هو برنامج نووي للأغراض السلمية اتجهت إليه مصر منذ بداية الستينيات, وإن كانت قد توقفت في طريقها لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها تطورات الصراع العربي ـ الإسرائيلي, وبالتالي فإن المخاوف من استعادة ذلك البرنامج هي مخاوف غير مبررة وتحميل للأمور أكثر مما تحتمل إذ يكفي أن نتذكر أن اتفاقية منع الانتشار النووي ذاتها تحبذ قيام برامج وطنية لاستخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية,
وقد تجددت الدعوة هذه المرة بصورة رسمية في المؤتمر الرابع للحزب الوطني علي لسان أمين السياسات ثم تضمنها خطاب رئيس الحزب في الجلسة الختامية للمؤتمر, وهو الأمر الذي استقبله المصريون بحماس واضح وتلقفته الدوائر الدبلوماسية والإعلامية بل والعسكرية باهتمام شديد فإننا نعتبر ذلك استفتاءا قوميا علي الرغبة العامة في ضرورة وجود بديل نووي كمصدر للطاقة, لأن المصادر الأخري سوف تأخذ طريقها ـ بحكم الطبيعة وقانون نضوب الموارد ـ إلي الروال إن عاجلا أو آجلا, ولنا الآن علي ذلك القرار القومي الاستراتيجي ونتائجه المباشرة عدة ملاحظات.
أولا: إن دولة مثل فرنسا تعتمد علي الطاقة النووية في ما يقرب من ثمانين في المائة من استخداماتها في جميع المجالات الصناعية والخدمية والصحية, وغيرها, لذلك فإن تجريم استخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية هو أمر غير وارد فكأنما نحرم علي البعض ما استحله الغير لأسباب اقتصادية بحتة.
ثانيا: إن تداخل الإعلان المصري عن عودة الروح إلي المشروع الوطني للبرنامج النووي قد اقترن ـ ربما لحسن الحظ أو لسوئه ـ مع القضية الدولية المطروحة حول الملف النووي الإيراني وهنا لابد أن نفرق تماما بين الحالة المصرية والمسألة الإيرانية, فمصر لا تسعي إلي تخصيب اليورانيوم, كما أن بناءها للمحطات النووية إنما يقوم علي استيراد التكنولوجيا دون تصنيعها, والفارق بينهما كبير كما هو واضح.
ثالثا: إن تداعيات الوضع في الشرق الأوسط توحي كلها بالرغبة العامة في جعل منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية, ومصر هنا تؤكد التزامها بهذه الدعوة التي بادرت إليها وشاركت فيها, ولكن الترسانة النووية الإسرائيلية هي العقبة الأساسية خصوصا إذا تطرقنا إلي التفرقة الموضوعية بين مفهوم السلاح النووي, ومفهوم البرنامج النووي, فالأول له طابع عسكري استراتيجي, والثاني له دوافع اقتصادية إسانية.
رابعا: إن توقيت الدعوة المصرية لبرنامج نووي سلمي قد صادف حماسا عربيا ملموسا وقلقا إسرائيليا ظاهريا, وإن كان رئيس الوزراء الإسرائيلي وغيره من قادة إسرائيل قد قللوا من شأن هذه الخطوة, واعتبروها قرارا محليا في نطاق أزمة الطاقة وليست قرارا استراتيجيا في إطار أزمة الشرق الأوسط.
خامسا: إن مصر قد حاولت أكثر من مرة تنشيط برنامجها النووي, وكان آخرها شراء مفاعل متطور من الأرجنتين, كما أن حماسها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي لشراء محطة نووية ووجود عروض أمريكية والمانية أمام صانع القرار المصري قد ارتطم وقتها بتداعيات مأساة تشرنوبيل في الاتحاد السوفيتي السابق, وقد كان ذلك من سوء حظ مصر لأنه عطل برنامجها النووي السلمي لعشرين عاما أخري في وقت تقدمت فيه دول عديدة في ذلك الاتجاه.
.. إنني أريد أن أقول وبكل وضوح من الملاحظات السابقة وغيرها أن مصر مدعوة لولوج الميدان النووي السلمي لأن ذلك حقها وانعكاس لمكانتها خصوصا أنها تملك أكبر رصيد من علماء الأبحاث النووية, ومعظمهم من خريجي ذلك التخصص في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية, وهم مبعثرون بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا, وبعض دول أوروبا والشرق الأوسط, فضلا عن وجودهم الظاهر في الوكالة الدولية للطاقة الذرية, إن مصر مطالبة الآن ـ وأكثر من أي وقت مضي ـ باللحاق بركب الاستخدام السلمي للطاقة النووية فذلك خيار لا بديل عنه, وإذا كنا قد تأخرنا فإننا نقول إن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/10/3/WRIT1.HTM