كلما احتدمت المواقف وادلهمت الأمور واستحكمت الحلقات وخيمت علي الأمة العربية روح الإحباط, وسادت بين شعوبها مشاعر الغضب السلبي وسيطرت عليها أجواء القلق المنفعل, كلما حدث ذلك قفز إلي ذهني شعور مختلف وانتابتني روح الحزن النبيل الذي يدفع الناس نحو المستقبل ويشدهم من قبضة الحاضر وينتشلهم من ذكريات الماضي, وكلما اعتدت إسرائيل علي الأرض والبشر وقتلت الأطفال وهدمت المنازل وواصلت سياساتها العداونية ساعية إلي فرض وجودها القسري بالقهر والإرهاب وترويع العرب عامة والفلسطينيين خاصة بدلا من السعي نحو القبول الطوعي والتعايش السلمي مع الجيران في ظل سلام عادل وشامل يفتح أبواب التعاون الإقليمي ويسمح بالجوار الآمن لوصدقت نياتها وصحت أهدافها, كلما حدث كل ذلك تذكرت العبارة الشهيرة للثوار العرب العائدين من هزيمة حرب1948 عندما قالوا إن الحل لا يبدأ من فلسطين ولكنه يبدأ من العواصم العربية فأنا أقول صراحة إن ما جري ويجري وسوف يجري يدعو العقل العربي إلي الالتفاف حول كلمة واحدة هي كلمة الإصلاح, ولعلي أوضح هنا ما أجملته في هذه المقدمة الصاخبة لكي أشير إلي النقاط التالية:
أولا: إذا كان الله, لا يصلح ما بقوم حتي يصلحوا ما بأنفسهم, فتلك هي نقطة البداية التي يجب الإيمان بها والانطلاق منها, فالحالة العربية في مجملها تدعو إلي الأسف بل إنها تشير في عمومها إلي نوع من السكتة الدماغية التي أصابت العقل والبلادة الوجدانية التي استقرت في القلب, فالشارع العربي اختفي تقريبا بفعل الإقصاء والتخويف والقهر, وأصبح الرأي العام في مختلف العواصم العربية مكتفيا بإظهار الأسي وترديد عبارات التنديد بما يحدث وشجب العدوان, وتلك كلها مظاهر سلبية تكرس روح, الإحباط وتجعل الاعتياد علي الهزيمة أمرا محتملا.
ثانيا: إنني أظن مخلصا أن الدورة المخيفة والحلقة الشريرة للعلاقة بين الأسباب الداخلية والعوامل الخارجية في تشكيل الوضع العربي الراهن هي المسئولة الأولي عما نعانيه, فالقمع الداخلي يلتقي مع العبث الأجنبي في مساحة مشتركة هي التي تقود القرار العربي في القضايا المصيرية والمسائل المعقدة, كما أن الدائرة محكمة والدورة مستمرة, فالاستبداد جلب الاستعمار, والاستعمار هو الذي استدعي الاستبداد من جديد, وهكذا ندور في حلقة مفرغة امتدت بنا منذ بدايات القرن التاسع عشر حتي الآن, وهو أمر يثير القلق ويدعو إلي التأمل ويضعنا جميعا ـ وبغير استثناء ـ أمام واقع مؤلم ومستقبل غامض.
ثالثا: إنني أري العلاقة وثيقة بين الديمقراطية والحريات في جانب والمواجهة الواعية للصراع العربي الإسرائيلي في جانب آخر, ليت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اتخذ قرارا جسورا عام2000 بالنزول إلي الشارع الفلسطيني في استفتاء عام علي ما وصلت إليه المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي الذي اعترف بأنه كان مراوغا كعادته غامضا في عروضه ـ وذلك في غضون الأسابيع الأخيرة الحاسمة من رئاسة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي أظن أنه كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين تفهما نسبيا لحقوق الفلسطينيين ومعاناتهم, ولكن الرئيس الفلسطيني الراحل تخوف مما كان يجري علي الساحة, وأطل أمامه شبح اغتيال السادات ضحية لكامب ديفيد, الأولي فخشي أن يكون هو ضحية كامب ديفيد الثانية رابعا: إنني لا أدعي أن الساحة الفلسطينية والوضع العربي العام عام2000 كانا مختلفين عما هو عليه الآن, فإسرائيل هي إسرائيل العدوانية التوسعية المخادعة دائما التي تعيش في ظل مفهوم إرهاب الدولة وتخويف المنطقة, ومع ذلك فإنني أظن أن الظروف الدولية في ذلك الوقت ـ مع الرئاسة الأمريكية السابقة وقبل مصيبة الحادي عشر من سبتمبر2001 التي دفعنا ثمنها أكثر من غيرنا ـ كانت مواتية إلي حد كبير لإحداث اختراق ما في الصراع المزمن علي الأرض الفلسطينية, وأنا أعترف بأن العرض الاسرائيلي رغم مظهره المقبول نسبيا كان مبهما في جوهره مطالبا باعتبار الصفقة نهائية وليست مرحلة تمهيدية للتسوية العادلة الشاملة, ولكني مازلت أظن ـ ومن خلال موقعي الدبلوماسي حينذاك ـ أن فرصة ضائعة أخري قد ظهرت في تلك الأيام من نهايات القرن الماضي.
خامسا: إن موجة الإصلاح التي تتواري يوما بعد يوم ويجري إجهاضها علي طول وعرض الساحة العربية تحت مسميات تطلقها الأنظمة وشعارات يجري القذف بها لكي تلوكها الشعوب مخدرا طويل المفعول, إن هذه الموجة يجب أن ترتفع وبشدة أمام فوهات المدافع الإسرائيلية وطائرات الأباتشي وغيرها من لوازم الجريمة الإسرائيلية اليومية التي لا أظن أنها سوف تتوقف إلا إذا استيقظ العقل العربي وفكر بمنطق العصر وتعامل مع الصراع بطرق غير تقليدية حتي ولو كان ميزان القوي في غير صالح الجانب العربي كما هو الآن بعد خروج العراق من دائرة الصراع تقريبا, وانكفاء سوريا علي حل مشكلاتها اليومية مع الولايات المتحدة الأمريكية, وتوقيع مصر والأردن علي معاهدتي سلام أديتا الي حيادهما العسكري وإن لم تمنع دورهما السياسي, أما لبنان ذلك البلد العربي الجميل فإنه يبدو هدفا دائما لشهوة العدوان الإسرائيلية, وبهذه المناسبة فإنني أظن أن اختزال الدولة اللبنانية في حزب الله هو عبء عليها وظلم لقدرتها, ولكنني أظن أيضا أن حزب الله الذي يمارس دوره في جسارة تبعده عن شبهة الإرهاب وتجعل منه فصيلا قوميا في الصراع مع إسرائيل, أظن أن ذلك الحزب الجهادي المدعوم من دولة الثورة الإسلامية في إيران والمبارك من سوريا قد يأخذ المنطقة إلي مواجهة يبدو أنها غير مستعدة لها أو مؤهلة للإقدام عليها.
إن ما أريده الآن وبكل وضوح هو أن أوجه حديثي إلي أمتي قائلا إن مواجهة الغطرسة الإسرائيلية وجرائم الدولة العبرية تبدأ من مسيرة الإصلاح العربية, فالعلاقة وثيقة بين الحرية والديمقراطية, وبين قدرة الأمة علي إزالة العدوان وإقرار السلام الشامل والعادل, إنني أطالب بفهم صحيح للخريطة السياسية الدولية وإدراك سليم للأوضاع الإقليمية وطرح المبادرات الذكية والحوارات البناءة ومخاطبة الدنيا بلغة جديدة ترتبط بمصالحه وتصل إلي عقله, فليس المهم أبدا هو الوصول إلي وجدان العالم وضمير الإنسانية, ولكن الأهم هو التأتير في تفكيره ودفعه إلي إدراك الارتباط الحتمي بين أهدافه ومصالحه في جانب والسلام الشامل العادل من جانب آخر, إنني أظن أن الدبلوماسية الإيرانية ـ برغم اختلافات أساسية تحجبني عن منطلقاتها الفكرية ـ قد نجحت في تحقيق شئ مما أدعو إليه, فالعالم لا يحب ويكره ولكنه يحترم أو يستهين!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/8/8/WRIT1.HTM