حين يفتش المرء فى صندوق ذكرياته فإنه يقف عند بعضها مبتسمًا أحيانًا وعبوسًا أحيانًا أخري، وحين يقلب المرء فى دفاتره القديمة فإن (صندوق الدنيا) يبدو مفتوحًا أمامه ويرى ما لم يره من قبل ويدرك ما كان عاجزًا عن فهمه وقتها، وها أنا أضع أمام القارئ بعض النوادر من دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية اللتين قضيت فيهما جل عمري، ولا شك أن فترة عملى فى مؤسسة الرئاسة تبدو أكثر إثارة من غيرها ومع ذلك فإن ذكرياتى فى سفاراتنا بالخارج وفى البرلمان المصرى وأيضًا على المستوى الأكاديمى تبدو هى الأخرى موضع اهتمام لمن أراد لنفسه أن تكون حياته أفقية عمومًا ورأسية فى تخصص بذاته مثلما فعلت، وأبدأ بقصة طريفة حدثت لى فى مدينة العقبة الأردنية حيث كانت اللقاءات الدورية منتظمة ومتبادلة بين الرئيس الأسبق حسنى مبارك والعاهل الأردنى الراحل الحسين بن طلال وكانت تتم فى الجانب الأردنى إما فى عَمّان وإما فى العقبة وتجرى فى مصر أحيانًا فى القاهرة أو الإسكندرية أو شرم الشيخ، ولقد تميزت أخلاق الملك الأردنى الراحل بالرقى والفروسية، وكان معروفًا بالعفو عن خصومه عند المقدرة وحبه لمصر التى درس فيها بـ (كلية فيكتوريا) كما كان يتميز بالأدب الشديد والتواضع الزائد، وبغض النظر عن بعض الخلافات مع سياساته إلا أنه كان حاكمًا ثقيل الوزن بعيد الرؤية وكان الرئيس الأسبق مبارك يقدره وتتسم مباحثاتهما بالصراحة والوضوح والاحترام المتبادل، وفى إحدى زيارات الرئيس المصرى للملك الأردنى فى مدينة العقبة كان الزعيمان يجلسان فى صالون مغلق ولكن بابه الكبير من الزجاج الشفاف وكان الرئيس مبارك ينادينى فى أثناء اجتماعاته المغلقة لكى يسأل عن معلومة أو يطلب منى تذكيره بأمر معين، وقد دق الجرس وأخذ الرئيس مبارك ينادى باسمى فاندفعت تلقائيًا نحو الباب الزجاجى وأنا لا أراه بسبب شفافيته وكأنه جزء لا يتجزأ من الحائط الزجاجى كله، وكانت النتيجة ارتطام وجهى بشدة بذلك الباب الزجاجى حتى كدت أفقد الوعى فإذا بالملك الأردنى يندفع فى تلقائية واضحة وتواضع هاشمى معهود ليمسك بيدى ويطلب طبيبه فورًا الذى قرر أن ما جرى هو مجرد رضوض خفيفة ولكن الصدمة العصبية الناجمة عن الارتطام المفاجئ هى سبب حالة الدوار التى شعرت بها فى البداية، وقد أمر الملك فى الحال بوضع ملصقات بصورة التاج الملكى على أجزاء الباب الزجاجى حتى يدرك كل قادم أنه مغلق، وظل الملك يربت على كتفى ويجلسنى بجانبه فى محاولة لإخراجى من ذلك الموقف الذى فوجئت به حتى أن الرئيس مبارك قال له: كفى يا جلالة الملك إننا لن نستطيع تشغيل مصطفى الفقى بعد ذلك فلقد دللته جلالتك أكثر مما يجب! والملك يبتسم فى حنو وأدب شديدين وربما أرجع ذلك إلى أننا الملك وأنا مولودان فى يوم واحد هو الرابع عشر من نوفمبر 1935 بالنسبة له و 1944 بالنسبة لي، رحمه الله لقد كان ملكًا عظيمًا يرجع إليه الفضل فى بناء الأردن الحديث، وأنا أحكى هذه القصة الآن لكى أشير إلى ذلك النوع من الأحداث النادرة التى يفاجأ بها المرء فى حياته وتترك أثرها بعد ذلك لتختزنها الذاكرة سنوات طويلة، ويهمنى هنا أن أشير إلى ما يلي:
أولًا: إن تواضع الحكام هو من تعاليم الأديان، فنحن نتذكر عندما أرسل أحد الخلفاء إلى واحد من ولاته قائلًا له بشكل مباشر: (إما اعتدلت وإما اعتزلت)، وقال خليفة آخر لوليه فى أحد الأمصار: (افتح بابك وسهل حجابك)، وهذه كلها دعوات إلى التواضع المطلوب والاقتراب من الناس وعدم الانجراف وراء زهو السلطة وبريق المنصب.
ثانيًا: إن الهاشميين فى معظمهم وهم من أشراف مكة يتصفون غالبًا بالأدب الجم والبساطة الشديدة، ولقد اقتربت من الأمير الحسن بن طلال عندما كان وليًا لعهد الأردن لمدة تزيد على ثلاثين عامًا ورأيت فيه العلم الغزير والإقبال على الناس بشكل يثير الإعجاب ويدعو إلى الاحترام، ولا غرو فهو شقيق الحسين الذى عفا عن خصومه وخلع عنهم بدلة الإعدام ليتبوءوا مواقع فى السلطة حوله، وهو الذى ذهب إلى السجن وأحضر معه ليث شبيلات الذى كان متهمًا بانتقاد الملك والعيب فى ذاته فأخذه الملك بسيارته إلى بيت أمه كى تقر عينها ويشعر الملك بأنه ورعاياه أسرة واحدة.
ثالثًا: لقد استطاع الهاشميون إقامة مملكة متميزة فى شرق الأردن يشيد بها الكثيرون فى الغرب وفى الشرق حتى إن جنازة الحسين بن طلال كانت مظاهرة دولية حاشدة لملوك ورؤساء دول العالم، وأنا أتذكر أن وزير الخارجية المصرى اللامع إسماعيل فهمى قد ذهب إلى الأردن موفدًا من الرئيس السادات إلى الملك الأردنى الراحل وعندما نزل الوزير إسماعيل فهمى من الطائرة بهرته نظافة المدينة ولم يكن يتوقع أن عَمّان أصبحت بذلك الرقى فأبدى هذه الملاحظة لمرافقيه ومستقبليه فلما بلغ ذلك مسامع الملك الحسين ضحك كثيرًا وقال: إن إسماعيل فهمى (مستشرق)، فى إشارة إلى خدماته الطويلة فى الغرب وأروقة الأمم المتحدة .. لقد شيد الهاشميون دولة عصرية فى منطقة كانت صحراوية لتمثل دولة ملتقى بين الشام والحجاز. هذه ذكريات أثارها حادث الحائط الزجاجى ولم تغب عن ذاكرتى رغم مرور السنين.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/689200.aspx