مضى الرئيس الأسبق «مبارك» على تقليد بدأه الرئيس الراحل «السادات» وهو يقضى بتطعيم «مجلس الشورى» بفنان أو فنانة من بين المعينين فيه، تكريمًا للفن واعتزازًا بثروة «مصر» فى قواها الناعمة، وكان من أشهر التعيينات موسيقار الأجيال «محمد عبدالوهاب» والفنانة «أمينة رزق» والفنانة «مديحة يسرى» وغيرهم من رموز الموسيقى والمسرح والسينما، وكان قرار التعيين دائمًا مفاجئًا لمن يقع عليه الاختيار، وقد ظل بعضهم لأكثر من دورة واحدة عضوًا بالتعيين فى «مجلس الشورى»، ولقد امتد هذا التقليد أيضًا إلى بعض الأدباء وكبار الكتاب والقيادات الإعلامية، خصوصًا فى مجال الصحافة، حيث كانت تعتبر العضوية حماية لهم أمام دعاوى اتهامات النشر والتجاوز فى حقوق الآخرين، وذلك طمأنة لهم وحرصًا عليهم! ومازلت أتذكر أطرف مواقف التعيين عندما وقع اختيار الرئيس الأسبق «مبارك» على الفنانة العظيمة الراحلة «أمينة رزق» فقد اتصل بها (سويتش) الرئاسة ليقول لها إن الرئيس «مبارك» على الخط يريد أن يتحدث إليها، فاعتبرت ذلك مزاحًا ثقيلًا، وأغلقت الخط التليفونى فى الحال مع بعض عبارات الأسى على هبوط مستوى الأخلاق إلى حد مداعبة فنانة كبيرة بهذه الطريقة، ولقد حاول معها سويتش الرئاسة ثلاث مرات، وكان رد فعلها واحدًا، وهو إغلاق الخط التليفونى من جانبها إلى أن اتصل بها عامل التحويلة من خط جديد، وقال لها: أرجو أن تتصلى بهذا الرقم للأهمية فقبلت ذلك وأخذت الرقم وأجرت الاتصال فرد عليها سويتش رئاسة الجمهورية وقام بتحويل المكالمة- بعد المحاولات الفاشلة التى تمت- إلى الرئيس «مبارك»، الذى رحب بها ترحيبًا صادقًا، وأبلغها بالقرار الجمهورى الخاص بضمها عضوة معينة فى مجلس الشورى، و«أمينة رزق» على الجانب الآخر لا تكاد تصدق ولكنها تأكدت- من نغمة الصوت وصحة الرقم الذى اتصلت به- أن الأمر حقيقى ولا توجد مداعبة سخيفة، فبدأت بالدعاء للرئيس وللوطن واعتبرت التعيين تكريمًا لمشوارها الفنى الطويل، ووسامًا على صدر واحدة من أمهات المسرح والسينما ورائدات الفن فى مصر لعدة عقود، ويثير هذا التقليد من وجهة نظرى بعض الملاحظات الإيجابية التى أذكرها فيما يلى:
أولًا: إن تكريم الفن ورموزه هو علامة رقى لأى عهد، لأن الفن رسالة وليس وظيفة، كما أنه هو «الترمومتر» الذى نقيس به درجة الاستعداد نحو النهوض والتهيؤ للانطلاق، فالفن لغة الحياة والتعبير الدقيق عنها والدولة التى تضع الفنان الحقيقى فى مكانه الصحيح هى دولة واعدة تملك من القيم والتقاليد ما يجعلها قادرة على تكريس دور الفن فى خدمة المجتمع والارتقاء بالشعب.
ثانيًا: مازلت أتذكر أننى سمعت من الأستاذ الراحل الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» أن الرئيس «عبدالناصر» بعد نكسة 1967 شعر بالكآبة تسيطر على الناس فى أنحاء الجمهورية فاتصل برائد المسرح المصرى «يوسف وهبى» وطلب منه الانتقال بفرقته المسرحية للعرض فى محافظات الدلتا والصعيد، ترفيهًا عن الناس وتخفيفًا من أثقال النكسة، التى كانت مفاجأة حزينة للمصريين فى كل مكان، وقد بدأ الفنان «يوسف وهبى» رحلته بـ«مدينة دمياط» وعرض إحدى مسرحياته التى تحتوى مشاهد درامية ولا تخلو من عنف بل وتثير الحزن، عندئذ وقف بعض المتفرجين فى القاعة وقالوا نصًا: (يا يوسف بك فينا ما يكفينا، نريد بعض الترفيه ولا نسعى لمزيد من الاكتئاب)، فالمزاج المصرى يتأثر بالفن منذ العصر الفرعونى حتى الآن، بل إن الشعب المصرى هو من أكثر شعوب المنطقة تذوقًا للفنون وتجاوبًا معها وسعيًا إليها.
ثالثًا: إن الارتباط بين السياسة والفن لا يحتاج إلى دليل، فما أكثر ما خدمت الأعمال الفنية بالموسيقى أو الغناء أو المسرح أو السينما شعارات مراحل سياسية معينة، ويكفى أن نتذكر الفنانين الكبار وما قدموه فى مناسبات وطنية وأحداث سياسية من أعمال كانت هى الجسور التى تصل بين السلطة والشعب، بين الحاكم والناس.
إننى ممن يعتقدون أن الفن أداة كبرى فى تحويل مسار الشعوب وتحديد أقدارها، وفى ظنى أننا لم نلتفت جيدًا لما نملك من رصيد فى ميادين الفن المختلفة، خصوصًا السينما، وإمكانية تحويلها إلى مصدر كبير للدخل وعائد على الوطن.. أتذكر الآن ما قالته الوزيرة د. «درية شرف الدين» والمبدع د. «مدحت العدل» فى ندوة المثقفين بـ«مكتبة الإسكندرية» منذ أيام، فقد قدما وصفة وطنية تؤكد كل ما قلناه.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1356101