كرمنى «أدباء مصر» باختيارى رئيسًا لمؤتمرهم فى دورته الثالثة والثلاثين بمدينة «مرسى مطروح» فى شهر ديسمبر 2018، وعكفت فترة وجودى هناك على تصفح وجوه أدباء الأقاليم وشعرائه وآمنت أن مصر تملك ثروة هائلة من القوى الناعمة ولكن الأغلب الأعم منها مطمور فى زوايا القرى والمراكز والأقاليم على امتداد الجمهورية وأن فرصة هؤلاء محدودة قد تأتى منهم طفرات مثل الراحلين «الأبنودى» و«أمل دنقل» القادمين من أقصى الجنوب أو الراحل «خيرى شلبي» ذلك الروائى العلم الذى لا يقل كثيرًا عن صاحب نوبل والقادم من «كفرالشيخ»، ولكن الفرصة قد لا تكون مواتية فى كل الظروف فقد رأيت بين شعراء الأقاليم وأدبائه من لا يقلون إطلاقًا عن ذوى الشهرة وأصحاب الأسماء الكبيرة ولكن لأن العاصمة المصرية هى مركز جذب هائل لذلك فقد استأثرت بالأعداد الكبرى ممن يصعدون مدارج الشهرة ويتجهون إلى أعلى، وقد تدفع المصادفة بواحد من أبناء الأقاليم لكى يجد فرصة قد يتمكن من انتهازها ويسطع نجمه ويتألق فى سماء الفكر والثقافة والأدب والشعر وربما المسرح والسينما أيضًا، ولكن الأمر الذى لا مراء فيه هو أن حركة النشر قد أصبحت مكبلة فى السنوات الأخيرة فقد جاء على الناشرين حين من الدهر اتجهوا فيه إلى الكتب السياسية بينما جرى التركيز فى عصر «مبارك» على الكتب الدينية، وها نحن الآن فى وقت لا يرحب فيه الناشرون- غالبًا- إلا بأدب الرواية التى يقبل عليها الشباب وتجد مكانها فى التوزيع والانتشار وذلك يعنى ببساطة أن النشر يتحكم فى توجيه دفة حركة التأليف والترجمة، فالنشر فى النهاية هو المرحلة الأخيرة من توجيه الرأى العام بما يضخه من صفحات منشورة أو كتب مطبوعة، ولابد أن أعترف هنا بالحقائق الآتية:
أولًا: إن حركة النشر من خلال الورق المطبوع قد اهتز عرشها بفعل ثورة المعلومات والتقدم التكنولوجى الذى جعل الوسيط الإلكترونى أسهل وأيسر لكل من يطلب مكانًا فى ساحة الكتابة ولم يعد الأمر حكرًا على ناشر بمطابعه، وقد نكتشف بعد سنوات قليلة تراجعًا زائدًا فى المطبوعات لصالح التسجيل الإلكترونى والتوثيق القائم على التقدم التكنولوجى.
ثانيًا: إن جيلًا بل وأجيالًا جديدة تطل علينا بمفاهيم مختلفة ورؤى متباينة لذلك اختلفت الأذواق وتعددت الرؤى، وأنا أتذكر الآن أننى لم أسمع عن الدكتور «أحمد خالد» إلا عند رحيله واكتشفت أن له رصيدًا ضخمًا للغاية لدى الشباب بنمط جديد من الرواية لم يصل إلى جيلى فلم نتابعه ولم نتأثر به ولكن ظاهرة الحزن الشبابى عند وفاته دقت ناقوس الخطر الذى يقول إننا على أبواب تغييرات كبيرة فى العقل المصرى والذوق الأدبى.
ثالثًا: إن غياب الصالونات الأدبية- وهى تختلف عن الصالونات الاجتماعية- قد حرم جيل الشبان من التعامل المباشر مع كبار الأدباء وأقطاب الفكر والثقافة إلا فى مناسبات نادرة أو احتفالات معينة، كما أن صفحات الرأى فى الصحف الورقية لا تتسع هى الأخرى لاحتواء أجيال تبحث عن منفذ تصل به إلى القارئ وتحقق من خلاله شهرة مشروعة.
رابعًا: إن تدهور مستوى اللغة العربية فى بلادنا مع غيبة الاطلاع على الآداب الأجنبية بلغاتها فضلًا عن ضعف حركة الترجمة التى بدأت تنهض من كبوتها، ولو على استحياء، كل ذلك أدى إلى إغلاق النوافذ وحرمان العقل المصرى الشاب من ومضات فكرية وآراء حرة لا يتعامل معها ولا يتعاطى نتائجها.
خامسًا: إن التركيز على آليات لاكتشاف المواهب فى الأقاليم ذاتها هو أمر تتحمله قصور الثقافة وأشهد أنها تحاول ذلك فى السنوات الأخيرة ولكن مازال الأمر محتاجًا لمزيد من الجهد والصبر والاهتمام.
هذه خواطر ألحت على وأنا أتطلع من فوق منصة مؤتمر الأدباء إلى جموعهم الغفيرة وقد آليت على نفسى لحظتها أن أجعل من «مكتبة الإسكندرية» منبرًا لمن لا منبر له كما يقولون.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1360147