استقبلني المصريون في زيارتي الأخيرة للعاصمة النمساوية استقبالا لم أكن أتوقعه, فقد احتشدوا في ناديهم وسط فيينا في لقاء مفتوح حضره معي سفيرنا هناك, وكانت هموم الوطن وشواغله هي هاجسهم المسيطر فقد تحدثوا عن الحاضر والمستقبل, وأشاروا إلي الآمال والتطلعات, وناقشوا الأقاويل والشائعات ولكن الذي يعنيني في هذه المناسبة هو أنه عندما بدأت المناقشة المفتوحة انبري مصري من أبناء النوبة الغالية يتحدث عن شعور أهلها بالظلم, لأن الدولة فتحت باب التوطن للفلاحين من شمال الدلتا ليقيموا في بعض القري الجديدة علي ضفاف بحيرة السد العالي وأضاف الأخ النوبي أن تضحياتهم الطويلة من أجل مشروعات النيل علي امتداد القرن العشرين بدءا من خزان اسوان وصولا إلي السد العالي مرورا بالتعليات المتعاقبة للخزان كان النوبيون هم دافعي ضريبتها من استقرارهم وراحة أسرهم, ولقد بدا الرجل مشحونا متوترا وهو أمر أزعجني كثيرا خصوصا وأنه تربطني بأهالي النوبة صلات وثيقة خارج الوطن, ففي لندن وأثناء عملي نائبا للقنصل هناك قمت عام1971 بالمشاركة في افتتاح أول ناد لهم بالعاصمة البريطانية,
وأذكر أن ذلك كان في حي أيرلس كورت الشهير وقد تعاونت في ذلك مع عدد من أشقائنا النوبيين وكان لذلك أثره الكبير في إيجاد صداقات قوية ربطتني بهم حتي الآن, ومازال بعضهم يتصل بي من مراكز محافظة أسوان في المناسبات المختلفة بعد أن عادوا إلي الوطن وتقاعدوا هناك, حيث يحمل كل اتصال معهم أواصر الود والمحبة وترديد الذكريات المشتركة, وعندما عملت سفيرا لبلادي في فيينا شاركت في تأسيس نادي ابناء النوبة حيث جعلنا عضويته مفتوحة للمصريين والسودانيين, ولن أنسي أبدا يوم ان تزاحم أبناء الجالية المصرية لتوديعي في مطار فيينا عند انتهاء مهمتي عام1999, وكيف كانت وجوه ابناء النوبة المصرية واضحة بين من كانوا يومها هناك, ولاعجب فالنوبيون هم جزء لايتجزأ من أصل حضارتنا عرفناهم متصفين دائما بالأصالة والأمانة وحسن المعشر, وقد ساءني كثيرا أن يندس في صفوفهم من يهمس في أذن بعضهم بأفكار هي أبعد ماتكون عن روح الوطن وخصائصه التاريخية, لذلك فانني أهيب بالحكومة المصرية أن تتخذ من الاجراءات مايمحو من نفوسهم الشعور بالظلم أو الاحساس بالتفرقة,
وقد لايكون لها مبرر ولكن تغذيها نعرات مسمومة تستهدف سلامة مصر واستقرارها, وأنا أقول هنا إن النوبيين المصريين مواطنون شرفاء يعتز بهم الوطن بل إنهم قد احتلوا كثيرا من المواقع المتميزة علي امتداد تاريخنا كله فضلا عن ارتباطهم الوثيق بالحضارة الفرعونية التي علمت الدنيا وألهمت الإنسانية, ولقد ذكرني ذلك مباشرة بما يردده أيضا أشقاؤنا من بدو سيناء حول معاناة يشعرون بها في السنوات الأخيرة ورغبة في أن يستمع الوطن الأم إلي شكوي أطرافه خصوصا إن بدو سيناء كانوا دائما أصحاب أدوار معروفة في الدفاع عن حدود الوطن, ورغم أنني أعترف بأن هناك محاولات ناجحة تمت أخيرا لرأب الصدع وإغلاق الثغرات التي يحاول بعض الحاقدين النفاذ منها إلا أن الأمر مازال يحتاج الي معالجة واعية في إطار مفهوم المواطنة الذي ارتضيناه جميعا وأصبحنا نطالب به معيارا وحيدا للشخصية المصرية دون تفرقة أو استثناء, ويهمني هنا ان أسجل الملاحظات الآتية:
أولا: إن القلب لايهدأ إذا كانت الأطراف قلقة, بل إن الأخيرة هي قرون استشعار الوطن التي يجب أن تكون راضية النفس مستقرة الوجدان تشعر بأنها جزء أساسي من الجماعة الوطنية ولاتعطي فرصة للدسائس أن تمارس دورها الخبيث في العبث بمقدرات أقدم خريطة في الوجود وهي خريطة الكنانة.
ثانيا: إن لبدو سيناء والنوبيين في جنوب الوادي مثلما لقبائل الصحراء الغربية دورا تاريخيا مشهود في الدفاع عن أطراف الخريطة المصرية مع اليقظة الدائمة امام المخاطر والتحديات ومحاولات الاستمالة أو التسرب التي يعرفها تاريخ الأوطان في كل مكان, ولذلك فهم دائما يتطلعون إلي الدولة المركزية متوقعين منها مزيدا من الرعاية وقدرا مطلوبا من الاهتمام, وأنا أدرك أن نظام الحكم ـ ايا كان لونه أو توجهه ـ لابد ان يعطي التجمعات البشرية علي حدود الوطن نظرة حانية لأنهم يمثلون خط الدفاع الأول عن الدولة.
ثالثا: إنني أطالب بمعالجة مشكلات الأطراف خصوصا وان هناك من يحاول أن يهمس إليهم بالشائعات والاغراءات والتحذيرات, وقد تكون كلها كاذبة, ولعلي أذكر الجميع بمحاولة إقحام مايطلقون عليه في الخارج المسألة النوبية علي مسلسل مشكلات الوحدة الوطنية المصرية, ولعلنا لاننسي أن صوتا نوبيا مخدوعا قد شارك في مؤتمر لبعض أقباط المهجر أخيرا بالولايات المتحدة الأمريكية حيث تعالت صيحات نكراء تحاول أن تنال من كيان الوطن ووحدة مكوناته وهو أمر خطير للغاية, ويجب ألا يؤخذ ببساطة لأن استقرار مصر هو أمر يثير حسد من لايريدون لها أن تكون دائما واحة للانصهار السكاني والتجانس الاجتماعي.
رابعا: إنني لاأدعي انه لاتوجد مشكلات حقيقية للأقباط أو النوبيين أو البدو في سيناء والصحراء الغربية, ولكنني أزعم ـ وعن يقين ـ ان مصر قد بلغت مرحلة من حرية التعبير لم تعرف لها سوابق من قبل في تاريخها الطويلة ـ فلايوجد محظور يمنع مناقشة مسألة بذاتها أو قضية بعينها فالكل امام القانون سواء, كما ان الجميع شركاء في المفهوم العصري للمواطنة وهو مفهوم لاينظر الي الفروق الدينية زوالعرقية بين أبناء الوطن الواحد.
خامسا: إن الحكمة الوطنية تقتضي معالجة القضايا والمشكلات وهي في طور الظهور المبكر ولاتسمح ابدا بتجاهلها وترديد نغمة عدم وجودها والاكتفاء بالخلاص نظريا منها, خصوصا أننا أمام وطن توحدت عناصره في الأزمات وتكاتفت أطرافه امام الغزوات ولم تمزقه الفرق الدينية أو النعرات العرقية لأنه وطن الكل في واحد.
.. هذه خواطر ألحت علي بعد لقائي بأبناء الجالية المصرية في فيينا وهم قريبون الي قلبي, عزيزون علي نفسي, قضيت بينهم أربع سنوات كاملة أزور فيها ناديهم العريق مرة كل شهر علي الأقل, وكنت أفتح فيها منزلي ـ وهو بيت الدولة ـ في المناسبات المختلفة دون توجيه دعوات مكتفيا باعلان يحدد المناسبة سواء كانت دينية أو قومية, فيأتيني المئات يتوافدون دون أن نعرف من هو ابن الدلتا او الصعيد أو النوبة او سيناء أو من هو المسلم او المسيحي, بل إن أعدادا كبيرة من أبناء الجالية العربية كانت ترتاد دار مصر لأنها الأم بالنسبة لهم جميعا, ولقد أسعدني كثيرا وأنا أتجول في شوارع وسط العاصمة أثناء زيارتي الأخيرة أن عشرات من المصريين والعرب كانوا يتقدمون لتحيتنا في حماس صادق وشوق حقيقي, وأنا علي يقين ان سفراء مصر العظام يقومون بدور مماثل في أرجاء المعمورة ولاشك في أن سفيرنا الحالي في العاصمة النمساوية يسعي هو الآخر لتعزيز تمثيل مصر في تلك العاصمة المهمة التي يجتمع فيها عمل المنظمات الدولية مع العلاقات الثنائية الأوروبية في نسيج واحد.. بقي أن نقول أن مصر كانت ولاتزال وسوف تظل واعية بالقلب والأطراف في وقت واحد لاتفرق بين شمال وجنوب, أو شرق وغرب, فالكل حراس حدود الكنانة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/6/27/WRIT1.HTM