الجامعات هي منارات للعلم تستهدي بها المجتمعات في طريقها نحو حياة أفضل, وإذا تذكرنا الآن التجربة المصرية لإنشاء أول جامعة أهلية في مطلع القرن العشرين لوجدنا أنها كانت مبادرة وطنية في إطار السعي نحو الاستقلال وتأكيد الهوية القومية, فالجامعة أقرب إلي مفهوم العقدة النفسية في حياة الأمم والشعوب منها إلي أي شيء آخر, لأنها تعالج مركب نقص حقيقيا لا يختفي إلا بميلادها وتطورها لا لأن التعليم الجامعي وجاهة اجتماعية فقط ولكن لأنه أيضا قاطرة التقدم ومؤشر النهضة وعلامة الرقي, ويكفي أن نتأمل المحافظات المصرية التي تضم علي أراضيها جامعات مستقلة, لكي نكتشف حجم التقدم الذي تسببه تلك الجامعات وحالة الرواج الفكري والثقافي التي ترتبط بها. والجامعات المصرية الثلاث الأقدم في القاهرة والإسكندرية وعين شمس والتي حملت أسماء فؤاد الأول وفاروق ومحمد علي قبل ثورة1952 سوف تبقي دعائم راسخة للتعليم المصري بشقيه التدريسي والبحثي,
وقد ضمت هذه الجامعات الرائدة مدارس مختلفة في التعليم والبحث العلمي معا ولعلنا الآن نقرر أن الجامعات الجديدة التي انضمت للفيلق العلمي الكبير قد استطاعت هي الأخري اللحاق بركب البحث العلمي وقدمت نماذج باهرة لذلك ولعلنا نشير هنا إلي مركز الكلي في جامعة المنصورة علي سبيل المثال, وهنا يجب أن أضع القاريء أمام الصورة الكاملة لما نشعر به تجاه التعليم العالي في بلادنا وتحوله إلي مؤسسات لتفريغ حملة شهادات عليا يقفون في طوابير البطالة دون إعداد واضح أو تدريب مدروس للحياة العملية, فهم يمثلون بحق امتدادا للعرض الذي كان متاحا في ستينيات القرن الماضي بينما هم يطلبون العمل وفقا لطلب النصف الثاني من العقد الأول للقرن الحادي والعشرين فتكون النتيجة هي تلك القنابل الموقوتة والمتمثلة في البطالة المتفشية بين خريجي الجامعات بمختلف تخصصاتهم, لذلك يهمنا في هذا السياق أن نشير إلي الملاحظات التالية:
أولا: إن فلسفة التعليم قد انتقلت حاليا إلي مرحلة متقدمة تقوم علي مفهوم التعلم الذي يعتمد علي جدولة العقل وفهرسة الذاكرة ومعرفة كيفية استخراج المعلومة والتعبير عن الرأي بحرية كاملة دون الحشو الدراسي الذي تعلمنا عليه وكنا مضطرين له, أما الآن وفي عصر الانترنت فلم تعد هناك حاجة إلي استبطان المعلومات لأنها أصبحت مختزنة لمن يريد الوصول إليها واستظهارها في يسر وسهولة, من هنا كان لابد أن تختلف فلسفة التعليم عما كانت عليه لعشرات القرون الماضية, ولماذا نذهب بعيدا إنني أشعر شخصيا بنوع من الاغتراب أمام عصر الكمبيوتر بكل ماله وما عليه.
ثانيا:ـ إن الجامعات بغير بحث علمي تتساوي مع المدارس الثانوية لأن قيمتها الحقيقية تقاس بمدي إسهامها في دفع البحث العلمي وتطوير الصناعة, فتعبير التكنولوجيا في أبسط تعريفاته ينصرف إلي عملية تطويع العلم في خدمة الصناعة وأنا لا أريد أن انكأ الجراح بالإشارة إلي ميزانيات البحث العلمي في مصر وغيرها من الدول العربية, فلو أننا قررنا منذ عدة عقود أن نوظف خمسة في المائة من عائدات النفط العربي لكنا الآن في وضع أفضل كثيرا عما نحن عليه, ولكنني أعود فأقول إن صديقي وزميل دراستي صاحب نوبل العالم أحمد زويل قد ذكر لي أن جزءا لا بأس به من الاكتشافات العلمية الحديثة وتطوير الصناعات من خلال شركاتها العملاقة إنما يتم بعيدا عن البحث العلمي الرسمي, وهذه نقطة مهمة لأن معظمها يتخذ من جراجات البنايات الكبيرة مركزا لها, حيث يقوم شباب الباحثين وصغار العلماء بعملية تطوير لمعادلة رياضية أو تحديث لجهاز علمي, فقضية الإمكانات الهائلة المرتبطة بالحديث عن البحث العلمي لم يعد لها مبررات داعمة في عصرنا الحالي.
ثالثا: إن الأصل في التعليم الجامعي هو ارتباطه بالبحث العلمي, لذلك فإن القصور الذي نعانيه في هذا الميدان ناجم بالدرجة الأولي عن سوء السياسة التعليمية, خصوصا في مرحلتها الجامعية بل إن سوق العمل تتأثر أيضا بسياسة التعليم, فالبطالة ابن شرعي لسوء التخطيط التعليمي لأن قبول أعداد كبيرة في الجامعات دون ارتباط بحاجات المجتمع ومتطلبات سوق العمل لابد أن يؤدي إلي الحالة التي نعيشها الآن, حيث غول البطالة يقتحم كل أسرة مصرية تقريبا بفتي فيها أو فتاة منها علي الأقل, ويهمني أن أقول هنا إن فتح الأبواب أمام الجميع لتعليم جامعي منخفض النوعية هو إيجاد لعملية مزدوجة التناقض في التعليم والعمل معا.
رابعا: إن هذه المنطقة النامية من العالم والتي تنتمي مصر إليها تحتاج إلي خبرات مدربة أكثر من حاجتها إلي شهادات مرصعة! فالبنية الاقتصادية والمؤسسات التنموية تطلب أولئك المدربين علي المهام الموكلة إليهم خصوصا أننا نعاني نقص المهارات وتراجع الخبرات في كل مايتصل باحتياجات التنمية والعمران وهو مايدعو الجامعات المصرية ـ حكومية وخاصة وأهلية ـ إلي مراجعة أعداد المقبولين فيها وتخصصاتهم المختلفة.
خامسا: إن البحث العلمي هو طريقنا إلي اللحاق بتكنولوجيا العصر ومواكبة علومه ومعارفه ولن يتحقق ذلك بغير سياسات تعليمية رشيدة, لأن التعليم والبحث العلمي هما وجهان لعملة واحدة والتدريس لا يصلح أن يكون مسئولية الجامعات الوحيدة, وهنا أشدد علي أن التفوق في التحصيل الدراسي قد لايعني المجتمع كثيرا ولا يرفع من مستوي حياة البشر, فالعبرة في النهاية بتأثير تفوق الطالب علي درجة إسهامه في التطور والتنمية ودفعه لجوانب الحياة المختلفة نحو آفاق جديدة, لذلك فإنني أبدي قلقي ـ كما أبديته من قبل في مناسبات مختلفة ـ من الانتشار التعليمي دون الاهتمام بالبحث العلمي, إذ أن النتيجة الحتمية لذلك هو مانراه الآن سواء بالنسبة للهرم الاجتماعي أو مشكلة البطالة أو نقص الكوادر المدربة في كل المجالات والتخصصات.
000
هذا طواف سريع حول قضية جوهرية في حياتنا العلمية والتعليمية مع آثارها المعروفة في واقعنا الاقتصادي بل والاجتماعي الثقافي أيضا, لذلك فإننا يجب أن نواجه الحقائق بشفافية ونتعامل مع التعليم الجامعي باعتباره مرحلة تكميلية لمن يتطلعون إلي البحث العلمي وتعميق أطر المعرفة, كما أن ميلاد مراكز مضيئة في تخصصات بعينها داخل جامعاتنا هو أمر لا مناص منه, فالتركيز علي الميزة النسبية في البحث العلمي ـ خصوصا بالنسبة للجامعات الإقليمية ـ هو أمر مطلوب بل منتظر ويجب أن أعترف هنا بأن بعض الجامعات الإقليمية قد حقق نجاحات مرموقة وكثيرا ما حدثني عالم فاضل يزاملني في الجامعة البريطانية بمصر هو الأستاذ الدكتور أحمد حمزة عن تجربته في رئاسة جامعة المنصورة لأكثر من سبع سنوات, كما شرح لي التخصصات الجديدة والفروع المتميزة وأشهرها بالطبع هو مركز الكلي الذي أنشأه وقاده في سنواته الأولي عالم جليل سمعت عنه في خارج مصر أكثر مما سمعت عنه داخلها وهو د. محمد غنيم.
خلاصة القول هو أنني أطالب بسياسة بحثية تتماشي مع السياسة الجامعية, فإذا كان التدريس هو خبز الجامعة وزبدها فإن البحث العلمي هو ثمارها الرائعة وقطوفها اليانعة وغرسها المزدهر يوما بعد يوم.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/6/13/WRIT1.HTM