ظهر اصطلاح سياسي تبنته حديثا وزيرة الخارجية الأمريكية عند استعراضها للأوضاع الداخلية في بعض دول الشرق الاوسط, وذلك هو تعبير الفوضي الخلاقة, أي أن حالة الاضطراب السياسي والاجتماعي والقلق الفكري والثقافي وتداخل القيم وغياب المعايير يمكن أن تكون في مجموعها مرحلة عابرة وحالة طارئة تستوي بعدها الامور وتستقيم الاحوال حتي يولد المشهد الجديد من رحم القديم, أي أن الفوضي المؤقتة تؤدي إلي إيجاد نظام مختلف حيث تتصف ديناميات الحياة الفكرية والسياسية بسرعة التحول والقدرة علي التغيير, واذا طبقنا هذا المصطلح بمفهومه الذي أوردناه علي المشهد المصري الراهن فاننا سوف نكتشف أنه لاينطبق عليه ولا يعبر عنهواذا استعرضنا مايجري علي الساحة المصرية حاليا بدءا من العدوان علي كنائس الاسكندرية مرورا بتفجيرات سيناء وصولا إلي أزمة القضاة فاننا نجد في ثنايا هذه العناوين الرئيسية عشرات النقاط الفرعية المتصلة بهذا المشهد, ولعلنا نشرح في ايجاز الملابسات المرتبطة بالوضع المصري العام والتعقيدات التي طرأت عليه من خلال تأمل القضايا التالية:
* أولا: لقد حدث أمر غريب في السنوات الخمس الماضية وهو التداخل بين ملفين أحدهما يتجه نحو الاصلاح, والثاني يتحدث عن توريث السلطة, ويجب أن نشير هنا إلي أن الملف الثاني ملف انطباعي بالدرجة الاولي لا تعززه اجراءات بل تنفيه تصريحات!
ولكن الذي حدث كان نتيجة غرام العقل المصري بسوء التأويل وافتراض خبث النية نتيجة أزمة الثقة المفقودة بين المواطن والسلطة علي امتداد معظم عصور التاريخ المصري كله, وقد نجم عن ذلك أنه قد جري تفسير كل الخطوات الاصلاحية من منظور التمهيد لوراثة الحكم مماأدي إلي اجهاض مفهوم الاصلاح واختزاله في إطار التوريث, ولعل ردود الفعل التي شهدناها منذ خطاب الرئيس مبارك في26 يناير2005 الذي دعا فيه مجلسي الشعب والشوري إلي تعديل المادة76 من الدستور المصري الحالي وماتبع ذلك من آثار متباينة هو خير دليل علي التفسير التآمري القابع في أعماق الوجدان المصري تجاه قرارات سلطة الحكم مهما كانت تلك القرارات ايجابية واصلاحية ومطلوبة.
* ثانيا: إن القضاء المصري هو ركيزة الامان الاولي في الوطن كله وهو قلعة الحريات والضمان الاكيد للحقوق والواجبات, ونحن نري أن ما واجهه أخيرا هو أزمة طارئة نجمت عن الزج به في أتون العملية الانتخابية وصراعاتها المعروفة ونحن ننظر إلي القضاء في عليائه ونعرف عنه ـ كما هي تقاليده في كل الامم الراقية ـ اللغة الهامسة والصوت الخافت حتي لاتظهر خلافاته الداخلية مهما تعاظمت وتظل صورته وهيبته في أعين الناس كما يجب أن تكون وبهذه المناسبة فانني ابدي قلقي من الحديث المعلن عن مساءلة القضاة أو التحقيق معهم, فالقاضي رمز للعدالة لاينزل عن منصته إلا من أجل هدف وطني عام كما أنني أرفض بشدة العدوان علي القضاة ولا أظن أن ذلك كان أمرا مدبرا علي الاطلاق فالشرطة المصرية ترتبط بالقضاء ارتباطا عضويا تعززه طبيعة الدراسة القانونية المشتركة بينهما فضلا عن أن المزاج المصري ينتفض بشدة لأي عدوان علي القضاة ومازالت الذاكرة المصرية تعي جيدا رد الفعل الذي اصاب الوجدان المصري عندما جري الاعتداء علي رجل القانون والقضاء السنهوري باشا في غمار احداث الصراع علي السلطة بعد قيام ثورة يوليو1952 بسنوات قليلة كذلك فان مذبحة القضاة عام1969 مازالت هي
الاخري تمثل هاجسا كئيبا يطوف بسماء العدالة المصرية حتي الآن وانا أتفق هنا مع السيد أمين مساعد الحزب الوطني ـ أمين السياسات ـ من أن مذبحة القضاء لن تعود إلي هذا الوطن ابدا وانا ازعم ـ من خلال تجربتي المباشرة في العمل وبجواره ـ أن الرئيس مبارك هو أكثر حكام مصر الحديثة تقديسا للقضاء واحتراما للقضاة والشواهد علي ذلك لاتنتهي.
* ثالثا: ان القضاة بشر وليسوا ملائكة لذلك فانني اظن عن يقين أن حقهم في العمل الوطني العام ـ وليس العمل السياسي الحزبي ـ هو أمر طبيعي كما أن كشفهم للحقائق هو ايضا امر يقع في صميم رسالتهم بما في ذلك مسألة الحديث عن تزوير الانتخابات البرلمانية في بعض الدوائر شريطة أن يتم ذلك بالقنوات الطبيعية التي عرفها القضاء المصري ودرجت عليها احكامه وسوابقه, خصوصا ان النقد في هذه الحالة يتوجه إلي زملاء في المهنة وشركاء في المكانة لذلك تتحول المسألة برمتها إلي قضية داخلية ينقسم حولها القضاة ويختلفون, وانا أربأ بهم عن ذلك مؤمنا بحقهم الكامل في تعقب الاخطاء وكشف الحقائق من خلال الاساليب القانونية المعروفة, فصوت القضاة يعلو داخل أروقة المحاكم وفوق المنصات العالية وليس في مكان آخ,ر واذا كنا نسلم بغير جدال بالمكانة الرفيعة للمجلس الاعلي للقضاء فاننا لانحرم نادي القضاة من ممارسة دوره التنويري في الحياة العامة, ولقد اسعدني أن يتصل بي أخيرا رئيس النادي المستشار زكريا عبدالعزيز يدعوني لندوة عامة حول قانون السلطة القضائية بمقر النادي في القاهرة كما وجه لي دعوة مماثلة المستشار أحمد مكي لندوة حول ذات الموضوع في نادي القضاة بالاسكندرية كذلك استفدت كثيرا من مناقشات جرت بيننا ـ أعضاء المجلس القومي لحقوق الانسان ـ حول أزمة القضاة ولقد اثري الحوار فيها الدكتور أحمد كمال أبوالمجد والمستشار الدكتور عادل قورة والمستشار جمال شومان وغيرهم من أقطاب القانون والقضاء, ولقد سجلت موقفي هذا جليا اثناء الحوار بوضوح كامل ودون حساسية.
* رابعا: ان العدوان علي دور العبادة جريمة نكراء ولقد حان الوقت ـ في هذا العهد الذي يسعي جاهدا لرعاية الوحدة الوطنية ـ لدراسة الشأن القبطي في شفافية وتوازن, خصوصا أن التيار الغالب بين المصريين المسلمين قد اصبح يدعو إلي اعمال مبدأ المواطنة وحده عند التعامل مع ابناء الوطن الواحد, كذلك فاننا نشعر بإن الاقباط هم اقلية بالمعني العددي فقط, وقد كانوا دائما ولايزالون جزءا لايتجزأ من هذا الوطن العظيم ولعلي بهذه المناسبة اجدد دعوتي إلي قيام لجنة أهلية عليا ـ من غير رجال الدين ـ تختص بالحوار ومواجهة الازمات الطائفية بأسلوب وقائي واقعي لايردد الشعارات ولايستغرق في احتفالات ولكنه يسعي عمليا بضمير مصري كامل لإرساء القواعد الثابتة للمواطنة الحقيقية بين المصريين.
* خامسا: ان تفجيرات سيناء التي تكررت توحي باستهداف تلك البقعة الغالية من الوطن وتدعو إلي عمل سياسي مكثف بين اهلنا في سيناء, واضعين في الاعتبار الفوارق النفسية واختلاف التركيبة الاجتماعية لبدو سيناء عن مواطنيهم في الوادي والدلتا, مؤكدين أن الحلول الامنية وحدها لكل مشاكلنا اصبحت امرا لافتا للنظر فهي حلول قصيرة الاجل محدودة التأثير, فضلا عن الارهاق الكبير الذي يصيب جهاز الشرطة الذي اصبح يتحمل وحده الاعباء الجسام والكل يتفرج, لقد آن الاوان لميلاد حياة سياسية حقيقية ونشاط حزبي حر يضع في أولوياته مصلحة الوطن والمواطن قبل أي هدف آخر.
هذه قراءة سريعة في المشهد المصري الراهن نسعي بها إلي الخروج من المأزق حتي تظل مصر ـ كما كانت دائما ـ كنانة الله في ارضه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/5/16/WRIT2.HTM