تلقيت رسالة كريمة من أستاذ جامعي مرموق أعتز به وأعتبره امتدادا لمدرسة الدكتور لويس عوض ذلك المفكر الضخم في تاريخنا الحديث الذي ربطتني به علاقات ليس أولها لقاءاتنا في معهد الدراسات الدبلوماسية في الستينيات ولكن آخرها كان جلوسي إلي جانبه علي فراش المرض في مستشفاه قبل أن يودع الحياة بأيام قليلة, وفي ظني ـ بهذه المناسبة ـ أن لويس عوض قد أثار جدلا واسعا حول قضايا خلافية كبري مثل تقييمه لدور جمال الدين الأفغاني سياسيا وصلاته المتعددة بالقوي المؤثرة في عصره, وكذلك الجدل الذي أثاره كتاب لويس عوض عن اللغة العربية إلا أنه يظل قيمة رفيعة في تاريخنا الفكري والثقافي ولست أنسي ما حييت شجاعته الفائقة وصراحته النادرة عندما كتب سيرته الذاتية,
ففي الجزء الأول منها عن( سنوات التكوين) تطرق ذلك المفكر الراحل إلي مسائل شائكة ربما يدينه بعضها ولكنها مصداقية المفكر وشفافية شخصيته, وعندما دعاني ـ منذ سنوات ـ الأديب المصري نسيم مجلي لكتابة مقدمة كتاب أصدره عن( معارك لويس عوض الفكرية) رحبت بذلك احتراما لذكري ذلك الرجل العظيم وحفاوة بتاريخه المتميز, لذلك فإنني عندما تلقيت رسالة الصديق الدكتور ماهر شفيق فريد الأستاذ المتفرغ للأدب الإنجليزي بكلية الأداب ـ جامعة القاهرة رحبت بنشرها كاملة برغم اختلافه معي في أمرين يتصلان بعملاق الفكر العربي الأستاذ عباس محمود العقاد وذلك تعليقا علي مقال لي نشره الأهرام منذ أسبوعين تحت عنوان لقاء في السماء, وأنشر الرسالة مستأذنا في أن أعلق عليها بإيجاز في ختام هذا المقال, تقول الرسالة:ـ
الأستاذ الدكتور مصطفي الفقي
أكتب إليك هذه الرسالة عقب فراغي من قراءة مقالتك( لقاء في السماء) ـ أهرام الثلاثاء21 مارس2006) وهي من أجمل ما كتب عن العقاد العظيم في ذكري رحيله من شهر مارس من كل عام, ولكني أستأذنك في أن أخالفك في أمرين:
أولهما عندما تقول: أما مواقفه السياسية فهي لا ترقي في ظني لمكانته الفكرية وقيمته الثقافية وفي هذا الصدد أقول إنه لا تخلو مواقف العقاد السياسية ـ شأن كل معاصريه تقريبا من الكبار ـ من تقلبات وإدارة ظهر المجن لمن كان يناصره بالأمس, وهذا أمر شائع في حياة المفكرين في كل زمان ومكان, له أسبابه الموضوعية كما أن له أسبابه الشخصية, فالمفكرون بشر تسيرهم عواطفهم ومصالحهم كما تسيرهم ضمائرهم ومبادئهم, وإذا كان العقاد قد مدح فاروقا فقد كان فاروق ـ في السنوات الأولي من حكمه ـ موضع محبة الشعب وإعزازه, وقد مدحه من معاصري العقاد: طه حسين والرافعي وهيكل وآخرون كثيرون, وإذا كان العقاد قد انقلب علي الوفد ـ بعد أن كان كاتبه الأول في عهد سعد ـ فإنما ذلك لأسباب شخصية تتعلق باعتزازه المفرط بكرامته وشوقه إلي عهد الرئيس الراحل وخلافه مع النحاس ومكرم وغيرهما, ثم إن نزعة ارستقراطية الفكر في شخصية العقاد ـ حتي في عز أيام ارتباطه بالوفد ـ قد كانت ولا ريب عاملا مؤثرا في إدارة ظهره لحزب الجماهير وتحوله إلي أحزاب أخري أقرب إلي الطابع النخبوي, وإذا صرفنا النظر عن هذه الجوانب( وفيها ضعف بشري لا ينكر,
ولكن أينا قد سلم من الضعف في لحظة أو أخري من حياته؟) فسنجد أن سجل العقاد السياسي في مجمله ناصع جدير بالتقدير لقد وقف ـ بمفرده تقريبا, ولا سند له سوي قلمه الجبار ـ في وجه النازية والفاشية والشيوعية والصهيونية والاستعمار ولم يفلح أحد علي كثرة الإغراءات في شراء قلمه أو ضميره وكان من أوائل المتنبئين بزوال النظام الشيوعي وسقوط هتلر وموسوليني وستالين, وكتبه الحكم المطلق في القرن العشرين و الصهيونية العالمية و النازية والأديان وهتلر في الميزان كلها شواهد ناطقة بشجاعته الفكرية واستقلال رأيه, وفي أي تقييم للعقاد مفكرا سياسيا يجب أن نأخذ في الاعتبار ـ بعد معاركه الشخصية الزائلة ـ أنه من أبرز المفكرين المصريين خارج النطاق الأكاديمي الذين عالجوا نظرية السياسة من منظور عقلي رحب يتسامي علي الاعتبارات الحزبية والشعارات الديماجوجية, نري هذا في كتبه فلاسفة الحكم في العصر الحديث وعقائد المفكرين في القرن العشرين و رسائله الخالدة عن سعد زغلول والكواكبي وغاندي ومحمد علي جناح وفرانكلين,
أما الأمر الثاني فهو أنني أتحفظ علي قولك إن لغة العقاد في خطاب تسلمه جائزة الدولة التقديرية من الرئيس جمال عبد الناصر في ديسمبر1960
كانت جافة ومجردة وخالية من عبارات الإطراء وألفاظ المجاملة, كلا إنك بهذا تساعد علي إطالة أمد أسطورة شائعة يكفي لدحضها أقل مراجعة لخطاب العقاد ذاك( وهو منشور في كتابه عيد القلم المكتبة العصرية بيروت ـ صيدا) لقد كانت أول كلمة للعقاد في ذلك الخطاب هي في هذه الهالة من حضرة الرئاسة السامية وكانت آخر كلماته تلك هي جمهورية الفكر خير قرين لجمهورية الحكم.. لا جرم تهل علي أعيادنا طلعة الرئاسة مشكورة مأثورة باسم الدولة واسم الأمة هل بعد هذا يقال إن العقاد تجاهل رئيس الدولة ونسب الفضل كله إلي الأمة؟ وهل مما يزيد من قدره أن يتجاهل رئيس الدولة ورمزها وقد جري العرف في كل زمان ومكان منذ رعاة الفن عند الرومان وقبلهم علي أن يشكر الفائز بالتكريم الإمبراطور أو الملك أو الأمير أو الرئيس الذي قدم إليه الجائزة بيده, والأهم من هذا أن للعقاد مقالة كاملة عن كتاب الرئيس جمال عبد الناصر فلسفة الثورة( أحسبها كانت في الأصل حديثا إذاعيا ألقاه من إذاعة القاهرة) أعطي فيها الكتاب حقه من الثناء والتقدير.
.. وأوجز أنا بدوري ملاحظاتي علي رسالة الدكتور ماهر فريد فيما يلي:ـ
1ـ إن مقالي محل التعليق في هذه الرسالة لم يكن مقالا عن العقاد العظيم وإن كان الذي أوحي به هو مناسبة ذكري رحيله التي أنعشت لدي ذاكرة الهموم الذاتية في مرحلة الشباب والتطورات الفكرية التي عايشتها وتأثرت بها وقد قلت ذلك في صراحة ووضوح كما كانت بعض أجزاء مقالي امتدادا لما كتبه في ذات الأسبوع الناقد الكبير الأستاذ رجاء النقاش وتعليق الأستاذ شامل أباظة عليه.
2ـ إنني لا أجد اختلافا كبيرا بين ما تشير إليه رسالة الصديق وما كتبته عن العقاد إذ إن كلينا يحمل لذلك المفكر العظيم تقديرا كبيرا يشترك معنا فيه ملايين البشر, ومازلت ـ بعد إذن صاحب الرسالة ـ متمسكا بمقولتي أما مواقفه السياسية فهي لا ترقي في ظني لمكانته الفكرية وقيمته الثقافية, وأقصد هنا بمواقفه السياسية الحركة بين الأحزاب وليس التنقل بين الأفكار.
3ـ إن ماكتبه الدكتور ماهر فريد عن كلمة العقاد عند تسلمه جائزة الدولة التقديرية من الرئيس عبد الناصر يؤكد ما ذهبت إليه في مقالي المشار إليه لأن العقاد امتدح موقع الرئاسة وأثني علي مأثورة الدولة والأمة ولم يستغرق في مديح شخص الرئيس مثلما فعل عملاق آخر عند تسلم الجائزة في عام سابق عليه وأعني به عميد الأدب العربي طه حسين, كما لم يشتط في استجداء الرئيس مثلما فعل كاتب كبير مثل( الضاحك الباكي) فكري أباظة في خطاب اعتذاره للرئيس عبد الناصر عن مقاله الشهير في مجلة المصور حول فيدرالية عربية تنضم إليها إسرائيل, والذي يقرأ مقالنا موضوع التعليق لابد أن يخرج بانطباع واضح هو اعتزازنا بشموخ العقاد وتأكيد مكانته الكبري في تاريخ الفكر العربي بل الفكر الإنساني كله.. فمرحبا بالرسالة القيمة للصديق العزيز, وتحية لكل حوار يتميز برقي اللغة ودماثة الاختلاف وموضوعية الطرح.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/4/4/WRIT2.HTM