هناك نظريتان في التعامل مع النظم السياسية المختلفة, الأولي تري أنه لابد من اتخاذ موقف حاد من أي نظام قائم وفقا لدرجة صلاحيته ومدي التزامه بالمشاركة السياسية والشفافية الوطنية, وتري النظرية الثانية أن التعامل مع النظم والتعاون معها لا يعني التطابق الكامل في وجهات النظر, بل قد تكون هناك هوامش للاختلاف تسمح بها مساحة الديمقراطية لدي النظام الحاكم, والملاحظ أنه وفقا لهاتين النظريتين فإن الحياة السياسية يجب أن تكون إما بيضاء أو سوداء, فدعاة النظرية الأولي يميلون إلي أخذ الأمور بأحد اللونين الأبيض الناصع أو الأسود القاتم,
بينما دعاة النظرية الثانية يدركون أن هناك ظلالا كثيرة تفصل بين اللونين المتضادين, لذلك فإنهم لايقفون علي إحدي ضفتي النهر, ولكنهم يسبحون فيه مدركين أن العوم ضد التيار أمر مستحيل لأن حالة الثبات وسط المياه الهادرة أمر غير وارد, فإما أن يتقدم الانسان أو يتقهقر إلي الوراء, ولايعني ذلك بالطبع تبريرا للانتهازية الشخصانية, ولكنه توصيف للمرونة السياسية, شريطة الالتزام بحد أدني من المبادئ التي تمنع صاحبها من الانجراف دعما لفساد أو تأييدا لظلم أو تبريرا لخطأ, وقد يكون من المناسب أن نطرح هنا تصورنا لكيفية التعامل مع النظم السياسية المختلفة ونوعياتها المتعددة من خلال المحاور التالية:ــ
أولا: إن النظم السلطوية الباطشة يستحيل التعاون معها أو الانضواء تحت لوائها, لأن القهر لغة لايتحدث بها إلا الطغاة ولا يجيدها إلا البغاة, من هنا فإن الولاء لها مستبعد, كما أن تبرير تصرفاتها يبدو مستحيلا خصوصا أنه لا يصنع الديكتاتور ويزين له تصرفاته إلا قطيع من المنافقين الذين يبررون أفعاله ويسوغون للناس جرائمه.
ثانيا: إن النظم المثالية أمر مستحيل وجودها عبر التاريخ كله فاليوتوبيا طرح نظري لا وجود له والعمل السياسي بطبيعته لا يخلو من مناورات وألاعيب وتصرفات انتهازية ومواقف استعراضية, لأن السياسية هي فن الممكن وليست فن المستحيل, ولو استعرضنا النظم السياسية المعاصرة لوجدنا أنها في مجملها تبدو ابنة شرعية لمكيافيللي الذي اعتمد مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وفقا لما تضمنه كتابه الأمير منذ عدة قرون وهو ما يعني أن البراجماتية أو الواقعية السياسية هي العنصر المسيطر في عالمنا المعاصر.
ثالثا: إن كثيرا من الأحداث تبدو مؤلمة في وقتها ولكن الحكام يبررون دائما ما يفعلون, فمحمد علي ــ مؤسس مصر الحديثة ــ هو مدبر ومخرج مذبحة القلعة التي حاصر فيها المماليك في أحد أبهاء قلعة صلاح الدين حيث أعمل فيهم رجاله السيوف وبنادق البارود فتخلص محمد علي من المتاعب التي يسببونها له وانفرد بالسلطة هو وأولاده من الأسرة العلوية لما يقرب من قرن ونصف قرن من الزمان, والرئيس عبدالناصر دخل أزمة مارس1954 ليخرج منها زعيما أوحد بعد شهور قليلة, كما أن السادات أطاح بكل منافسيه في السلطة من فلول اليسار والناصريين بحركة مفاجئة في15 مايو1971 فأصبح بعدها صاحب الكلمة العليا في البلاد, وهكذا نجد أن مياه النهر تجري دائما بين ضفتيه فلا تخلو من أمواج عالية ورياح عاتية.
رابعا: إن الذين يزعمون أن السياسة مبادئ وليست مصالح هم واهمون, فالبورصة السياسية ترفع قيمة بعض القيادات وتخفض البعض الآخر وتقدم البعض وتؤخر غيرهم, لأن الحياة السياسية لاتخلو من مراكز القوي وسيطرة بعضها علي مقدرات الحياة السياسية منذ أن جرت عملية فك الاشتباك بين السياسة والأخلاق, بل إننا نزعم أن من ينتظر أن يأتيه النظام المثالي سوف ينتظر طويلا, ونحن نؤمن بأن ما لا يدرك كله لا يترك كله وأن تحقيق حد أدني من قبول نظام معين هو أجدي للوطن حتي لو حقق الحد الأدني من الإصلاحات لأن الوقوف علي الضفة الأخري من النهر في عجز كامل وسلبية واضحة هو أمر معيب لايفيد الأوطان ولا الأفراد.
خامسا: إن الشعارات النظرية والأفكار المسطحة والآراء المتعجلة هي أمور لاتفيد عملية التحول الإصلاحي الذي تبتغيه الأمم وتسعي نحوه الشعوب, إذ لابد من الانخراط في الحياة العامة لأن الوقوف علي ضفة النهر يمثل نوعا من الانزواء أو التخلي الطوعي عن الممارسة السياسية الفاعلة, كما أن مفهوم المعارضة يعني في حد ذاته القبول العام بما هو قائم والاعتراف الضمني بوجوده رغم وجودالاختلافات معه حتي ولو كانت جوهرية, فالأصل في الحياة السياسية أنها اشتباك حقيقي وتواصل مستمر بين أطراف اللعبة مهما تعددت وتشابكت.
.. إنني أريد أن أوضح من النقاط السابقة حجم الصراع الذي يعيشه المشتغلون بالحياة العامة في بلادنا, حيث حملات الانتقاد شديدة والصراعات مستمرة بل إن حملات التشهير الإعلامي أصبح هو الأخر مادة متاحة لكل من يريد أن يفتح أبواب الخلاف الجذري مع الآخر, بل إننا نلاحظ أن العمل العام قد أصبح شائكا يسهل فيه التجريح والتشهير, كما يتسم بشيوع الفوضي الفكرية, فالكل يريد أن يحقق في ظروف استثنائية ما لم يتحقق في ظروف طبيعية, ولقد تميزت التطورات الأخيرة في مصر باتساع مساحة حرية التعبير وهو أمر نرحب به ونتحمس له, ولكننا نلاحظ أن الحرية المسئولة غائبة وأن هناك قدرا من الابتزاز السياسي يفرض نفسه علي الساحة, وتلك كلها أمور خطيرة تحتاج إلي دراسة متأنية وفهم صحيح لطبيعة العمل السياسي الذي يجب أن يقوم علي حق الاختلاف ومنطق الحوار مهما كانت الظروف أو الدوافع لأن الاشتباك مطلوب والحوار أساسي والتواصل حتمي, ويهمني هنا أن أطرح السيناريوهات الثلاثة التالية:ــ
(أ) سيناريو الولاء المطلق للنظام وتبرير كل تصرفاته والدفاع عن جميع أخطائه, وذلك يعبر عن منطق انتهازي بحت ودرجة عليا من النفاق السياسي التي لا ندعو لها ولا نشجع عليها, فأصحاب هذا الاتجاه يشترون مصالحهم الشخصية ويبيعون المصالح العليا للوطن.
(ب) سيناريو ثان يقاطع أصحابه النظم القائمة ولا يرون إيجابية واحدة فيها ويرفضون كل ما تفعله ويسفهون كل ما تنجزه, ومنطقهم في ذلك أن الاختلاف في المبادئ جذري وأن الصراع جوهري وأن الحياة السياسية محصورة في اللونين الأبيض أو الأسود, أما اللون الرمادي فهو يعبر عن ميوعة فكرية ومحاولة للإمساك بالحبل من منتصفه.
(ج) هناك سيناريو ثالث ــ عقلاني واقعي ــ لايعطي منطق الدوجما الأفضلية علي حساب الأسلوب البراجماتي ويؤمن بإمكانية التعايش مع النظم إذا وجد الحد الأدني من القبول بها, ويتمثل ذلك الحد في طبيعة الأرضية الوطنية المشتركة التي تعطي أصحابها حق الاختلاف في إطار الجماعة السياسية, وقد يستطيع أصحاب هذا الرأي تحقيق تحولات إصلاحية في النظام القائم بالتعاون معه والتراضي العام الذي يقبله الطرفان ــ برغم اعتراف كليهما بعناصر الاختلاف ــ وهذا في ظني موقف إيجابي شريطة أن ينطلق من روح المصلحة العامة ولا يعبر عن حالة إنتهازية.
.. إن الذين يقفون علي ضفتي النهر يشاهدون مياه النهر تتدفق مكتفين بالرفض القاطع أو التأييد الأعمي, يجب أن يدركوا أن القبول بكل ما يتماشي مع صالح الوطن ورفض كل ما دون ذلك هو تعبير عن مدرسة فكرية وطنية تؤمن بالإصلاح التدريجي ولا تتحمس لمنطق الثورة المفاجئة, والعبرة في النهاية بالعطاء المخلص والإسهام المتجرد والمواقف الموضوعية.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2006/3/7/WRIT1.HTM