يمثل تاريخ الحركة الوطنية المصرية أخصب فترات القضاة والمحامين في مصر نشاطا وتألقا ولعل ذلك يفسر إلي حد كبير تلك الحساسية التي نشهدها أحيانا لدي رجال القانون ـ قضاة أو محامين ـ تجاه23 يوليو1952 وما بعدها, وليس ذلك تمسكا منهم بالعهد الملكي أو إعجابا بالعرش المصري بقدر ما هو ذلك القلق الذي ساورهم تجاه مفهوم الشرعية الثورية وتراجع سيادة القانون في ظلها وهو أمر بلغ ذروته في الحادث الشهير للسنهوري باشا بعد عامين من قيام الثورة فضلا عن مذبحة القضاء في نهاية الستينيات,
والواقع أن القضاء المصري ـ الجالس والواقف ـ لم يأخذ موقفا معاديا بالكامل من العصر الجمهوري, فما أكثر من تعاونوا معه وكانوا مستشاريه ومفصلي قوانينه وشراع تشريعاته, ومع ذلك ظلت الغصة باقية لديهم لأن الدور السياسي للقضاة والمحامين قد تراجع بعد عصر كانت لهم فيه الغلبة, سواء في مواقع السلطة أو مقاعد الوزراء فعندما كان الوزير في الحكومات الحزبية سياسيا بالدرجة الأولي كان يتم اختياره وفقا لقدرته علي تصور طبيعة عمل وزارته ورؤيته لمستقبل الأداء السياسي لها,
وبالمناسبة فنحن لسنا ضد حكومة التكنوقراط أو حكومة رجال الأعمال لأن الرؤية السياسية ليست حكرا علي فئة بذاتها ولكنها ملكة يحوزها من ارتبطوا بالحياة العامة في سن مبكرة وانخرطوا في أدوارهم السياسية برغبة وقدرة في آن واحد, ولازلنا نذكر عهدا كان فيه وزير الصحة أو المواصلات أو حتي الدفاع حقوقيا كما كان هناك وكيل دائم لكل وزارة يدير دولاب العمل اليومي فيها, وعلي كل حال ليس بعيدا علينا العودة إلي الوزير السياسي مرة أخري إذإن وزير الزراعة الحالي خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
وكذلك وزير الضمان الاجتماعي والتموين خريج الكلية الفني العسكرية ولا بأس من ذلك كله فالمهم في النهاية أن يمتلك الوزير ـ وهو المسئول السياسي الأول في وزارته ـ رؤية متكاملة ونظرة شاملة تضع الخطوط العريضة واللمسات النهائية التي يقوم الفنيون بتنفيذها, ونعود الآن إلي القضاة والمحامين وكيف كانت مشاركتهم في الحياة السياسية إضافة إيجابية للعمل العام وليست خصما منه.
القضاة والعمل السياسي
تحدثت أثناء حوار في المجلس القومي لحقوق الإنسان حول حق القضاة في ممارسة العمل السياسي وضربت مثالا بدورهم في الحركة الوطنية المصرية وكيف أن أبرز شخصيتين في الفترة الليبرالية(1919 ـ1952) وهما سعد زغلول ومصطفي النحاس قد جلسا علي منصة القضاء بل إن بروز النحاس باشا في الحياة العامة كان مرتبطا بحكم شهير له جعله قريبا من الرأي العام, ولقد رد علي خلال ذلك الحوار واحد من شيوخ القضاء المصري الشامخ هو الدكتور عادل قورة الذي كان رئيسا لمحكمة النقض ومجلس القضاء الأعلي بالتبعية ف
قال:( إن زغلول والنحاس اشتغلا بالسياسة بعد أن برحا منصة القضاء وتركا منصبهما الرسمي), ومع ذلك فإنني لازلت أشعر بأن حرمان القضاة من العمل السياسي أمر صعب لأن من درس القانون وتفاعل مع مفهوم علاقة الفرد بالفرد ثم الفرد بالدولة لا يمكن عمليا أن يكون حبيس إطار واحد مهما تعددت الأسباب أو اختلفت الأساليب ولابد له ـ والأمر كذلك ـ أن يكون شريكا
فيما يدور داخل الوطن وخارجه ولازلنا نذكر دور المستشار سليمان حافظ مع بداية الثورة المصرية وإعداده لوثيقة تنازل فاروق عن العرش وحضوره التوقيع عليها, بل إنني عشت عدة أيام في الفترة الماضية مع مذكرات السنهوري باشا وشعرت بتعاطفه مع بعض الاتجاهات السياسية رغم أنه كان حذرا للغاية فيما كتب, وقد أحسست برأيه تجاه تيار معين من خلال حزنه علي أحد رموزه الذي تم تنفيذ حكم الإعدام فيه مع غيره برغم أن السنهوري لم يشر إلي ذلك الحادث صراحة فذلك هو حذر القضاة وتحفظ رجال القانون,
وعلي كل حال فإنني لا أتصور أن يكون هناك مثقف يمكن حرمانه من المشاركة السياسية ولو من بعيد كما أنني لا أستطيع أن أرفع صفة الثقافةعن القضاة وهم أهل لها ومصدر لتنوعها وهل ننسي أسماء مثل طارق البشري أو سعيد العشماوي أو غيرهما من الرموز الثقافية الرفيعة والتي تنتمي إلي سلك القضاء من بدايته إلي نهايته
ولازلت أذكر أنني دعيت لإلقاء محاضرة في نادي القضاة مرتين في ظل رئاستيه المتعاقبتين وتشرفت في المحاضر الأولي بحضور وزير العدل السابق المستشار فاروق سيف النصر الذي أكرمني بتقديمه لي وهو قاض حصيف اجتمعت لديه التقاليد المعروفة للقضاء المصري وكان عنوان المحاضرة يدور يومها حول زحف الاعتبارات السياسية نحو القضاء وتأثير ذلك علي استقلاله وكان رأيي منذ سنوات ولازال حتي الآن هو أن حرمان القاضي من المشاركة السياسية أمر مستحيل عملا
وهو مجرد شعار نظري لأننا لا نستطيع أن نمنع مثقفا رفيعا متخصصا في العقود والالتزامات والحقوق والواجبات من التفاعل مع قضايا الوطن وشكلاته.
المحاماة والسياسة
لا تثريب علي القضاء الواقف في أن يكون شريكا كاملا في العمل السياسي وتاريخنا الوطني زاخرا بالنجوم التي جمعت بين روب المحاماة ومقاعد السلطة, وعندما ذهبت لدراسة الدكتوراة بجامعة لندن في بداية السبعينيات من القرن الماضي كان نموذج المحامي مكرم عبيد يطل علي ذاكرتي بين حين وآخر باعتباره المجاهد الكبير ورائد الوحدة الوطنية الذي خرج من دائرة النشاط الطائف ليكون رمزا وطنيا التف حوله الجميع حتي أنه عندما انشق عن النحاس وخرج من الوفد تبعه أنصاره من المسلمين وبقي مع النحاس مؤيدوه من الأقباط, وأنا ممن يعتقدون أن المحاماة مهنة نجدة تبدأ من نجدة الوطن إلي نجدة الفرد في كل الظروف والأحوال وعندما نتحدث عن نقابة المحامين مثلا فإننا نشير إلي قلعة وطنية للحريات لا ترضخ لقوة بعينها ولايحيط بها إلا سياج القانون, ولقد رأينا في مناسبات وطنية كثيرة كيف ينتصر المحامون لقضايا الوطن ويعيشون همومه وإذا كانت هناك تيارات سياسية مختلفة قد تغلغلت في أوساط المحامين إلا أنها تدور في فلك واحد وهو المصلحة العليا للوطن منذ كان النقيب هو مكرم عبيد أو محمود بسيوني أو البرادعي أو الشوربجي وصولا إلي الحصيف أحمد الخواجة أو الثائر سامح عاشور.
.. ويهمني أن أستخلص من سياق ما ذكرناه النتائج الآتية: ـ
أولا: ـ ضرورة قيام المؤسسة القضائية بالموازنة بين استقلال القضاة وحقهم في المشاركة السياسية علي نحو لا يقلل من شأنهم ولا يدخلهم طرفا في صراعات هم بالضرورة أعلي منها.
ثانيا: ـ أهمية الاعتماد علي أصحاب الرؤية في الحياة العامة والمواقع السياسية, وقد يكون لدراسة القانون والعلوم الاجتماعية أولوية في ذلك; لأن العلاقة بين التخصص الدراسي والثقافة الشخصية لاتزال وثيقة وفقا لنظامنا التعليمي القائم.
ثالثا: ـ إن المحامين ـ إلي جانب القضاة ـ كانوا هم وقود الحركة الوطنية ولهيبها المستعر ولا يمكن إقصاؤهم عن مسرح الأحداث; لأنهم شهود عصر, وشركاء وطن, وذوو ثقافة وأصحاب رؤية.
|