تتجدد بين الحين والآخر مشكلات سياسية بل وأزمات دولية بسبب تصريحات تدور حول أفران الغاز, التي ارتبطت تاريخيا بالزعيم النازي ادولف هتلر أكثر الشخصيات إثارة للقلق والتوتر في أوروبا خلال القرن العشرين كله, كما أن اليهود قد برعوا في استغلال قصة الهولوكوست لابتزاز شعوب الدنيا وفي مقدمتها الشعب الالماني الذي ظل يدفع تعويضات باهظة لإسرائيل طيلة عقدين كاملين من القرن الماضي, بل إن كاتبا عالميا مرموقا تورط مرة وقارن بين مأساة شعب يعاني وطأة الاحتلال وبين أفران الغاز والإبادة العنصرية, فكان مصيره أن تعرض لحملة يهودية كاسحة أجبرته علي الاعتذار علنا لأن ما جري لليهود ـ حسب وجهة نظرهم ـ من إبادة علي يد النازي أمر لا يمكن المقارنة به أو القياس عليه, كذلك فإنني أذكر أيضا أن قاضيا كنديا قال في تعليق له علي إحدي الجرائم المنظورة أمامه بأنها تشبه في فظاعتها جرائم النازي ضد اليهود في إشارة إلي تراث المحرقة أو قصة الهولوكوست,
فقامت الدنيا ولم تقعد حتي اضطر القاضي إلي الاعتذار كتابة عن ذلك التشبيه الذي لا تحتمله العقلية اليهودية المعاصرة, والاتهامات في هذه الاحوال جاهزة بدءا من معاداة السامية مرورا بكراهية اليهود وصولا إلي النزعة الفاشية لدي كل من يجرؤ علي المساس بقدسية قصة الهولوكوست وعندما تطوع الرئيس الإيراني نجاد بتصريحه الشهير حول مسألة المحرقة وإثارة الشك فيها ورفض تضخيمها كان ذلك بمثابة مبرر قوي يجري استغلاله حاليا إعلاميا ضد العرب والمسلمين والتحريض ضد إيران, كذلك فإن تصريحا مشابها قد نسبته بعض وكالات الأنباء للمرشد العام للإخوان المسلمين ولكنه أنكر ما نسب إليه وأبدي دهشته تجاه المصادر التي تروج لمثل هذه التصريحات, وهكذا نشعر بأن هناك معزوفة متناغمة يحاول اليهود استغلالها لتخويف الشعوب وإرهاب الأمم, ومع ذلك تبقي لنا وجهة نظر لابد أن نناقشها بشجاعة وصراحة مطلوبتين ونوجزها في النقاط التالية:
أولا: ـ إن لدي بعض الأمم محرمات ذات حساسية خاصة يعتبر المساس بها مغامرة غير مأمونة العواقب, فإذا قام إنسان بانتقاد الغازي مصطفي كمال أتاتوركفعليه أن يتحمل غضبة ضارية من الشعب التركي ومن مؤسسته العسكرية تحديدا, لأن الأمر يمس أحد المقدسات في تكوين تركيا الحديثة, كما أن الأمريكيين أصبحت لديهم عقدة متضخمة تجاه أي تشكيك في أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001 سواء من دبر لها أو من قام بتنفيذها.
فلابد ـ من وجهة نظر الأمريكيين ـ أن يسلم العالم كله بالنظرية الأمريكية في تفسير وتبرير ذلك الحادث الإرهابي الكبير, والأمر ذاته يلحق بالشعب اليهودي إذا جري التشكيك ولو من بعيد في أسطورة المحرقة وقصة الإبادة الجماعية التي تعرضوا لها خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
ثانيا: ـ يجب أن ندرك أن إنكار المحرقة أمر لا يمس الشعب اليهودي وحده ولكنه يمس أيضا قوميات أخري تعرضت للإبادة والتعذيب علي يد جلاد القرن العشرين أدولف هتلر, لذلك فإننا عندما ننتقد المبالغة في تصوير أحداث المحرقة وملابساتها وظروف وقوعها فإننا نسقط تلقائيا في حفرة الصراع غير المتكافئ مع قوي عديدة يتقدمها الإعلام اليهودي والقوي الصهيونية, حيث يتم ذلك بلا هوادة أو غفران أو تراجع.
ثالثا: ـ إنني أتساءل في موضوعية ما هو النفع الذي يعود علينا كأمة إسلامية أوعربية من ارتفاع أصوات تشير إلي الهولوكوست بالإنكار أحيانا وبالتشكيك أحيانا أخري, بينما يمكن لنا أن نفكر بطريقة عكسية إذ أن المبالغة فيما تعرض له اليهود من حرمان وتعذيب يمكن أن يكون تفسيرا عصريا لجرائم الإسرائيليين الحالية, ويظل التساؤل قائما, ما هي الفائدة التي تعود علينا ـ شعوبا وحكومات ـ من إنكار مأساة المحرقة أو محاولات الإقلال من تأثيرها ؟
رابعا: ـ لقد اكتشفت أن هذه الحساسية التي يشعر بها اليهود ليست مقصورة عليهم وحدهم, ومازلت أذكر أنه عندما طلب مني الدكتور كورت فالدهايم أمين عام الأمم المتحدة الأسبق ورئيس جمهورية النمسا بعد ذلك أن أكتب مقدمة الطبعة العربية لكتابه الشهير الرد الذي حاول فيه تبرير موقفه وإيقاف حملة اتهامه بالحماس للنازية ومعاداة السامية فإنني لاحظت أن الرجل ينفي جاهدا التهمة عن نفسه ويسترشد بشهود يهود يحتمي بهم, ولعلنا مازلنا نذكر ما تعرض له ذلك الدبلوماسي السياسي النمساوي الكبير من تضييق وابتزاز انطلاقا من أحد الاتهامات الواهية التي يروج لها يهود العالم حين يريدون.
خامسا: ـ قد يدهش القارئ أنني لم استخدم أية محاولة للتهويل أو التهوين من ذلك الحادث النازي غير المسبوق, ذلك أنني اعتقد أنه يمكننا الاستفادة من قصة المحرقة وأبعادها المختلفة في تصوير الظلم الذي لحق بالفلسطينيين وهم يدفعون الفاتورة الغالية لقصة الهولوكوست دون أن يكونوا طرفا فيها, بل ربما كان منهم بعض ضحاياها, ونحن نشهد يوما بعد يوم كيف أن ضيوف إسرائيل الرسميين الوافدين إليها يبدأون زياراتهم بوضع أكاليل الزهور علي النصب التذكاري لذلك الحادث المؤلم مثلما تفعل الوفود الرسمية التي تزور تركيا أمام قبر أتاتورك, كذلك الأمر بالنسبة لموقع مركز التجارة العالمي في نيويورك الذي أصبح مزارا يسعي إليه الناس ورمزا يشير إليه الأمريكيون باعتباره تجسيدا للشخصية الأمريكية وتذكارا للعدوان علي أمة بنت نفسها اقتصاديا وعسكريا بشكل غير مسبوق في التاريخ المعاصر.
** هذه ملاحظات أملتها علي خواطر روادتني وأنا أتأمل ما يدور حولنا في الفترة الأخيرة, بدءا من الدولة الإيرانية التي تتحدي الغرب بعد أن قدم لها بغزوه للعراق خدمة ثلاثية تخلصت بها من خصم عنيد في بغداد وجماعة طالبان السنية التي كانت تحكم في كابول بصورة أفسحت لإيران مجال الوجود في العراق حاليا علي نحو يعطيها زخما قويا في اندفاعها تجاه مواجهة غامضة مع الولايات المتحدة الأمريكية بل والغرب كله ضمن رواية مازلنا في أول فصولها, كما أن نهاية شارون السياسية تطرح هي الأخري قدرا كبيرا من الغموض تجاه سياسات المنطقة ومواقف النظم فيها إذ أن شارون يختفي من المسرح السياسي في الوقت الذي كان فيه سفاح صبرا وشاتيلا قد بدأ يتحول ـ ولو ظاهريا ـ تجاه الاعتراف الضمني بالدولة الفلسطينية, مظهرا رغبته في فتح جسور للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع باقي شعوب المنطقة, إنه شارون الذي كان يفضل أن يطلق عليه دائما لفظ المزارع المقاتل تأكيدا لتمكسه بالأرض وحرصه علي نجاح ذلك النمط الاستيطاني الفريد..
بقيت نقطة لا يمكن تجاهلها ولا ينبغي إنكارها وهي ضرورة أن يكون الحوار مع الغرب مرتبطا بالتفوق العلمي والتقدم التكنولوجي وليس بمجرد وقوفنا ضد الهولوكوست أمام عدسات التليفزيون أو في مقالات الصحف, إننا نسعي إلي دفاع حقيقي عن الإنسان العربي ورعاية حقوقه والاتجاه صوب آماله العادلة بدلا من أن يدفع هو ظلما فاتورة المحرقة النازية بينما يعاني من احتلال أرضه والعبث بمقدساته والاستهانة بحقوقه.
|