إنه مصطلح تعرفه الانتخابات في كل الديمقراطيات, ونعني به أن يكون التصويت لحزب أو جماعة أو زعيم هو نتيجة رفض البدائل أو التخوف من استمرار أوضاع يسعي الناخب للخروج منها, من هنا فإن هذا المصطلح لا يعطي الفضل لمن يختار, بقدر رغبته في سحب الدعم عمن لا يختار, وخطورة هذا النوع من التصويت أنه تصويت سلبي قد يتمكن من إسقاط من لا يريد ولكنه لا يتقدم بمن يريد لسبب بسيط وهو أن الأخير غير موجود, أو علي الأقل ليس متاحا, فإذا طبقنا هذا النمط من التفكير علي الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر فإننا نستخلص النتائج التالية:
أولا: إن الفارق بين الأحزاب المدنية والجماعات الدينية كبير ولا يمكن اختزاله في مجرد أسلوب ممارسة السلطة أو نوعية الحكم ولكنه يتجاوز ذلك إلي القاعدة النظرية والإطار الفلسفي لكل منهما, فالحزب المدني يتعامل مع معطيات المجتمع كما هي, بينما الجماعة الدينية تسعي إلي فرض تفكيرها الأوحد ونظراتها الفردية مهما كانت الظروف أو تعقدت الأمور.
ثانيا: إن ضعف الأحزاب المدنية المصرية ـ دون أن نخوض في الأسباب ـ قد أدي إلي فراغ سياسي واضح جعل الساحة خاوية وأفسح الطريق أمام قوي بديلة استفادت من ذلك وخرجت علينا تحصد ما زرعه الآخرون وتدخل البرلمان من البوابة التنظيمية وليس من البوابة الشعبية بالضرورة, وهذه نقطة تستحق التأمل بل وربما تؤدي الي الرغبة في مراجعة الفكر الديمقراطي كله.
ثالثا: إنني صراحة ضد غياب تمثيل جميع القوي السياسية في المجتمع, وأزعم صادقا أن التمثيل الكامل للشارع السياسي هو الطريق الوحيد للخلاص من المشكلات التي نعاني منها, بل إنني أظن أن ذلك التمثيل الشامل سوف يمتص علي المدي الطويل طاقة العنف ويشيع ثقافة الديمقراطية ويؤدي الي ظواهر صحية تعزز من مفهوم المشاركة السياسية.
رابعا: إن الفكر الليبرالي الذي تجسده مقولة الإمام الشافعي( إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) هو نفسه الفكر الليبرالي الذي تجسده أيضا مقولة فولتير الشهير( إنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا للدفاع عن رأي حر قد أختلف معه), فالفكر الليبرالي هو ابن شرعي للحضارتين العربية الإسلامية في جانب, والغربية المسيحية في جانب آخر, وهو ما يدعونا إلي ضرورة تحرير الحياة السياسية من القيود السلطوية والمفاهيم المادية والنصوص القدسية من أجل دعم مسيرة الليبرالية وآثارها الإيجابية في حياتنا.
خامسا: تلعب الصحافة دورا بارزا في التمهيد لمناخ الحريات العامة وترسيخ أطر الديمقراطية الصحيحة, وعلي الرغم من كثير من التجاوزات التي نعاني منها في هذه المرحلة إلا أن العائد الذي تأتي به حرية الصحافة أكبر بكثير من الثمن المدفوع فيها, بما في ذلك المعاناة الشخصية التي يشعر بها من تجري مهاجمتهم والتشهير بهم دون سند أو دليل وبغير تجرد أو موضوعية.
سادسا: إن الديمقراطية الغربية لا تزال هي أفضل الصيغ المعاصرة للتمثيل السياسي الصحيح, كما أنها العاصم الوحيد ضد الشطحات التي تصدر علي غير أساس وتنطلق علي غير هدي, ولكن الأهم من هذا وذاك هو ان يستوعب المناخ الديمقراطي جميع القوي والاتجاهات دون توقف او تردد, وهو ما يستتبع بالضرورة البحث في الأسباب التي أدت إلي تمزيق خريطة الحياة السياسية العربية وضرب مفاصلها المحورية.
سابعا: إن ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية أمر يدعو إلي الأسف ويثير قضية جوهرية تكاد تضرب الديمقراطية في مقتل, فإذا شارك ربع المقيدين في جداول الانتخاب فإن ارادة الثلاثة أرباع الباقية تظل معطلة, وهي تلك التي نطلق عليها الأغلبية الصامتة بينما التسمية الصحيحة لها أنها الأغلبية المنسحبة وهي التي اختارت ان تتخلي طواعية عن حقوقها السياسية وعبرت بسلبيتها عن رفض ذاتي للديمقراطية وقد تعددت في تفسير تلك الظاهرة الأسباب المختلفة بدءا من إحساس بعض المواطنين بعدم الجدية أو شعورهم بأن أصواتهم سوف تذهب دون جدوي أو قرارهم العبثي بالابتعاد عن الساحة تقاعسا ولا مبالاة.
ثامنا: إن ضعف الإقبال علي الاقتراع في الانتخابات البرلمانية هو مؤشر يزيد كثيرا في خطورته عن الحديث حول تزييف الانتخابات أو التدخل في عملية التصويت, فلو أن نسبة المشاركة ارتفعت كثيرا عما هي عليه الآن لتغير وجه الحياة السياسية في بلادنا واندفعت دماء جديدة لتقف علي المسرح السياسي في مشهد مختلف, ولاشك أن الوضع الحالي يخدم أهداف جماعات معينة تستطيع بدقة التنظيم أن تعوض غياب الشعبية الحقيقية وتقتنص الفرصة لتحقق في ظروف استثنائية ما لا يتوافر لها في ظروف طبيعية.
تاسعا: إن أغلي ما يجب أن نحرص عليه هو توفير البدائل السياسية من خلال نظام حزبي سليم ومناخ سياسي صحي تتنفس فيه كل الاتجاهات بحرية كاملة تحت مظلة الشرعية الدستورية في جانب وحدود الوطنية المصرية في جانب آخر, ولست أشك لحظة في أن الدولة المدنية تمثل مرحلة متقدمة تاريخيا عن مرحلة الدولة الدينية والتي أعقب وجودها ميلاد الدولة القومية التي سمحت بدورها للدولة المدنية العصرية ان تسود وأن ترقي.
عاشرا: ان الاصل في الحياة السياسية هو القبول الكامل بالآخر والتحاور معه والاحساس الحقيقي بوجوده والتفاعل المشترك, بل والاندماج فيه في إطار منظومة سياسية تستوعب جميع القوي وكل التيارات, أما الشعارات الأحادية فهي مصادرة علي المطلوب ـ كما يقول المناطقة ـ وظلم للأطراف الأخري وإجهاض لعملية الديمقراطية برمتها.
هذه بعض الأفكار المتصلة بنتائج وجود مصطلح التصويت العقابي الذي يعبر عن حالة مرضية في الحياة الديمقراطية ويدعو كل الأطراف إلي مراجعة أهدافها وتوفيق أوضاعها مع المعطيات الجديدة في الحياة السياسية, كما أنه يدل علي الرغبة في توفير الخيارات وإيجاد البدائل التي تجعل الحياة السياسية مستقرة وديناميكية بل ومزدهرة, وهنا لابد من وقفة موضوعية مع مفهوم التوازن في الحياة السياسية, وهو الذي لا يرحب بطغيان حزب علي غيره أو تركيز السلطة في يد جماعة سياسية مهما كانت الدوافع أو تنوعت الأسباب, لأننا مدعوون جميعا لدراسة أسباب ظاهرة التصويت العقابي باعتبارها تعبيرا عن العجز السياسي والفقر الفكري والضعف الديمقراطي, فضلا عن أن التصويت العقابي يمثل أيضا ظاهرة سلبية لا تدفع إلي الأمام بل إنها تشد الحياة السياسية كلها إلي الخلف, ولابد ـ
والأمر كذلك ـ من التعمق في الظروف القائمة وتحليل المناخ السائد واستكشاف عوامل الإخفاق التي تعطي في النهاية لمن لا يستحق, وترفع قوي معينة نتيجة تساهل غيرها أو تراجعه, فإذا كنا نحتكم في النهاية لصندوق الانتخابات فإننا يجب أن نمحص في الشعارات المؤدية إليه, والأفكار المطروحة حوله, حتي تكون هناك عدالة في الاختيار أمام الضمير الوطني الذي يجب أن يحتكم إليه الجميع وبغير استثناء.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/12/27/WRIT1.HTM